ومن المفارقات أنّ بعبدا صامتة تماماً على «تجاوُز» السعوديين للبروتوكول، عندما سلّموا رئيس الحكومة - لا رئيس الجمهورية - دعوةً إلى قمّة الرؤساء والملوك العرب والمسلمين مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. عون «على قلبه مثل العسل» و»مش قاسمين» نحن والحريري.ربّما أدّى السعوديون خدمةً لعون، إذ أراحوه من الإحراج. فلا هو قادر على رفض الدعوة إلى قمّة 23 أيار لو وُجِّهت إليه، ولا على إظهار عدم رغبته في التعاون ضد إيران، لأنّ ذلك سيعيد علاقاته بالسعودية إلى نقطة الصفر، ويسجّل علامةً سلبية في علاقاته بالأميركيين.
ولا هو قادر على قبول الدعوة وإلقاء كلمة تدين إيران لأنه سيفجّر علاقاته بها وبـ«حزب الله». وقد يكون «الغرام» العوني - الحريري هو الذي أوحى إلى السعوديين بأن يفعلوا ما فعلوه!
وقبل أيام، نهضَ عون عن طاولة مجلس الوزراء لانشغاله باحتفال الجامعة اللبنانية، تاركاً للحريري أن يترأس الجلسة ويتابع جدول الأعمال حتى نهايته، علماً أنّ الرئيس كان قادراً على رفع الجلسة.
الحريري أعرب عن تقديره لخطوة عون. وهذا ما أثار خصومه السنّة. فالرئيس نجيب ميقاتي رأى أنّ خطوة عون لا تستدعي الثناء، وخاطب الحريري بحدّة قائلاً: «كفى يا سعد»! لكنّ رئيس الحكومة تمسّك بموقفه. فهذه سابقةٌ إيجابية لموقع رئاسة الحكومة أن يقوم رئيس الجمهورية بتسليم رئيس الحكومة رئاسة جلسةٍ معقودة في بعبدا.
على الفور، بدا التقارب واضحاً بين الحريري والنائب محمد الصفدي، إذ رعى رئيس الحكومة في السراي الحكومي مؤتمراً نظّمته «مؤسسة الصفدي» لإنماء طرابلس. وفي ذلك رسائل سياسية ربّما تترك انعكاساتها على التوازنات في عاصمة الشمال، مع التحضير للاستحقاق الانتخابي المقبل.
وفق المطّلعين، الحريري يتّجه تدريجاً إلى استعادة 4 مواقع كانت «الحريرية السياسية» قد نجحت في ملئها منذ أن أسّسها الرئيس رفيق الحريري، وهي:
1- «الإمساك بالأرض» السنّية في لبنان. فدارُ الإفتاء منسجمة تماماً مع الحريري في الوقت الحاضر، وتيار «المستقبل» يستعيد تنظيمه، والتشقّقات في داخله تعالج في هدوء، ما يعيد حضورَه على الخريطة السنّية في كلّ المناطق.
2- إستعادة التغطية السعودية، خصوصاً إذا استمرّ التحوّل الأميركي الإيجابي نحو المملكة ودعمها في التصدي للتوسع الإيراني في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وهذه التغطية تترجَم على المستويين السياسي والشخصي، ما يساعد الحريري على استرجاع كثير من نقاط القوة التي كان يمتلكها والده، والتوازن مع القوى الكبرى، ولا سيّما منها «حزب الله».
3- إستعادة التوازن بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، وبينها وبين رئاسة المجلس النيابي. وهذا ما يُظهره الحريري في الأسابيع الأخيرة، من خلال الخصوصية التي أرادها لنفسه في التعاطي مع ملف قانون الانتخاب.
فموقفه كان أساسياً في تعطيل جلسة التمديد التي دعا إليها الرئيس نبيه بري. وهو أيضاً خرج من تحت عباءة النائب وليد جنبلاط للمرة الأولى، إذ أعلن مواقف مختلفة في ما يتعلق بالقانون وبمجلس الشيوخ. وفي المقابل، هو أظهر تقارباً «جريئاً» مع عون.
4- يتأهّب الحريري للاضطلاع بدور أساسي في الجانب الاقتصادي- المالي- الإنمائي، يشبه الدور الذي أرساه والده. مثلاً، هو يقف بقوّة إلى جانب خطة عون (باسيل - أبي خليل) للكهرباء، على رغم اعتراضات بري و«القوات اللبنانية» وآخرين. وهناك ورشة أخرى منتظَرة، نهاية الصيف، في ملف النفط.
إذا استمرّ مسار الحريري على اندفاعته في الاتجاهات الأربعة، فإنّه سيكرّس حضوراً لـ«حريريةٍ ثانية» بدلاً من «الحريرية الأولى» التي تعرَّضت للاغتيال في 2005.
البعض يعتقد أن نهج الحريري يقود إلى استعادة النسخة الحريرية الأولى تماماً: «لكم السياسة والأمن ولي الاقتصاد والمال». فمن مقوّمات نجاح الحريرية السياسية الأولى وجهها الاقتصادي- المالي- الإنمائي. وهي لذلك أمسَكت بمفاصل كثير من المرافق والقطاعات والإدارات والأجهزة.
لكنّ الأزمة التي اعترَضت الحريرية الأولى هي أنّها وجدت نفسَها، في لحظة، مضطرّة إلى تغيير قواعد الاشتباك، أي تجاوُز الدور الاقتصادي والاعتراض سياسياً، فكانت الصدمة الكبرى.
هناك من يقول اليوم إنّ الحريري تبنّى ترشيحَ النائب سليمان فرنجية، قبل عون، لضرورات التوازن الاقتصادي - السياسي. فإذا كان رفيق الحريري قد نجح في تدعيم أمبراطوريته المالية بإعادة بناء بيروت المهدّمة في الحرب، فإنّ سعد الحريري يتطلّع إلى عملية إعادة إعمار هائلة منتظرة في سوريا، بعد انتهاء الحرب. وليس هناك أفضل من فرنجية لفتح الأبواب السورية إعمارياً.
الواضح أنّ الحريري عازم على القول: «أنا هنا. أريد مكاني على الخريطة. لي دوري المستقل، والجميع يحتاج إليّ». وفي ظلّ الحرب الدائرة داخل معسكر 8 آذار (عون في مواجهة بري و»حزب الله»)، ما الذي يمنع الحريري من أخذِ دور جنبلاط الوسطي والوسيط بين القوى والطوائف؟
سيمضي الحريري في استعادة الإمبراطورية، بكثير من الدقّة، ومن البديهي أن يحاذر الصدمات، خصوصاً أنّ الأرض كلّها تتغيّر في الشرق الأوسط.