مهما بلغ تنظيم مؤتمر آستانة من أحكام ودقّة، فلن ينتج عنه أكثر من تحضير أفضل للمؤتمر القادم، لأن التسوية لم تنضج بعد، والاتفاق على صيغة الحل النهائي ما زالت بعيدة. المشكلة ليست سوى جزئياً عند السوريين. القوى الدولية والإقليمية تتحمّل الحصّة الكبرى من المسؤولية، وموسكو وواشنطن مسؤولتان عن ذلك، لأن اتفاقهما يُنهي الأسباب الظاهرة وخصوصاً الكامنة لاستمرار الحرب وبقاء الحل غاطساً في «نهر الموت».
«القيصر» فلاديمير بوتين، كان مطمئناً بأن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية سيطلق يديه ليثبّت طموحاته في تحقيق تمدّد تاريخي لـ«الدب الروسي» على شواطئ البحر المتوسط الدافئة. «القيصر» لاعب الشطرنج البارع أخطأ في حساباته. أغفل أهمية «الحصن» أي المؤسسة العسكرية الأميركية في ترتيب المواقع وصياغة استراتيجية أميركا دوراً وتنفيذاً. ترامب في واشنطن ليس بوتين في موسكو. أثبتت التحوّلات أنه لا يستطيع أن يتغافل عن ما تقرّره المؤسسة العسكرية الأميركية التي لا تثق بموسكو، وهي قالتها بوضوح علناً. غياب الثقة علّق التوصل إلى اتفاق، خصوصاً أن المطلوب التفاهم والاتفاق من القرم إلى سوريا وحتى العراق. لذلك تبقى سوريا جزءاً مهماً في المواجهات والمنافسات، ولكنها ليست كل شيء.
في واشنطن يقول الخبراء، إن واشنطن ارتكبت خطأين – كارثتين مع مطلع القرن الحالي وحتى الآن. الأولى عندما شنّت حرب العام 2003، والثانية عندما بادرت إلى الانسحاب من العراق بسرعة على أساس أن تكون طهران «شريكاً» في الحلول وليست «شريكاً مضارباً». طهران لعبت بكل ما تملك لـ«المضاربة» على الأميركي رغم أن إمكاناتها مهما كانت مهمّة تبقى محدودة أمام القوّة الأحادية. حالياً واشنطن تريد من موسكو أن تتفاهم معها على وضع دوائر حمراء لا يمكن لطهران كسرها في سوريا والعراق أساساً، وعلى قاعدة أن تأخذ ما لها وتحت السقف الأميركي وليس ما لها ومقاسمة ما لغيرها، استعداداً لمنافسة واشنطن نفسها. القمة الأميركية – السعودية – الإسلامية، التي ستُعقد في الرياض، نقطة فصل استراتيجية، قد ترسم الكثير من المسارات القادمة والحدود المُلزمة للجميع.
واشنطن يمكنها من الآن أن تقول لطهران إنه من غير المقبول أن تستمر في دورها السلبي لتحقيق الأرباح. يمكنها أن تكسب بالديبلوماسية أرباحاً ثابتة خصوصاً في الاقتصاد والتنمية أكثر بكثير من أرباحها الناتجة من تدخّلاتها السلبية سواء الأيديولوجية التي أنتجت وتُنتج انقساماً مذهبياً غير مسبوق بين السُنَّة والشيعة أو العسكرية مباشرة أو بالوكالة، لكن هذا التقدير الهادف إلى «تقييد الطموحات» الإيرانية لا يعني مطلقاً الوصول إلى مواجهة مسلّحة بين واشنطن وطهران. العاصمتان لا تريدان الحرب، لأن دخولها يتم بحادثة وقرار، أما نهايتها فإنها تكون مفتوحة على الجحيم. سوريا هي الميدان الأساسي لمرور كل المسارات. ما يُشجع واشنطن على ذلك أن موسكو يمكنها المقايضة خصوصاً أن «تحجيم» طهران يفيدها، فهي ستستفيد من استثمار إضعافها وأخذ جزء من «أرباحها» لأنها الوحيدة القادرة على سدّ الفراغ الحاصل لمصلحتها.
واشنطن تأخذ في حساباتها نتائج الانتخابات الرئاسية والبلدية في إيران في 19 أيار الجاري لتقرير ما يجب أن تفعله لاحقاً، عندما تُعقد قمّة الرياض، تكون قد عُرفت نتيجة الانتخابات. فوز حسن روحاني يريح واشنطن وقمّة الرياض. أما إذا فاز ابراهيم رئيسي (خصوصاً بعد انسحاب محمد قليباف له لتثبيت تحالف المتشدّدين حوله) فإن المواقف والتطورات ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات. رئيسي يريد أن يدير «حكومة جهادية» لإنقاذ الوضع، ومن دون أن يأخذ في الاعتبار (مع أن القرار النهائي عند المرشد آية الله علي خامنئي) موقف واشنطن، وإمكانية تشديد العقوبات، علماً أن أوروبا التي تريد الحل مع طهران لا يعود باستطاعتها منع تصعيد الموقف والعقوبات.
سوريا ستكون في حال المواجهة الأميركية – الإيرانية المساحة المفتوحة لكل أنواع المواجهات. واشنطن تستعد لهذا الاحتمال، لذلك توسّع دائرة تحالفاتها. فقد وعدت أنقرة بأن دور الأكراد في سوريا سيبقى عسكرياً ولا ترجمة سياسية له. مثل هذا الوعد متى تأكد أنه التزام سيغيّر الكثير من المعادلات، يمكن لأنقرة أن تنفتح أكثر فأكثر على الدخول في ترتيب المستقبل مع موسكو، وهي مستندة إلى واشنطن، مما يجعلها أقوى وبالتالي أكثر تطلباً.
التفاهم الروسي – الإيراني – التركي، ينجح إذا نجح روحاني، أما إذا فشل فإن الاحتمال الأكيد العودة إلى المربّع الأول. وما تقوم به واشنطن بهدوء في تنفيذ عملية قطع الاتصال بين أضلع المثلث الإيراني – السوري – العراقي، سيتم تكثيفه والإسراع في تنفيذه، حتى تقبل إيران بأن تكون قوّة إقليمية قوية لكن ليست قوّة كبرى تزاحم موسكو وواشنطن. المطلوب من طهران أن تلعب مثل أنقرة، وليس أكثر.
مشروع بناء تركيا لجدار مع طهران قد يتبعه بناء جدار إيراني – باكستاني، خصوصاً أن الصدامات المسلحة كشفت مدى هشاشة الوضع في سيستان – بلوشستان الإيرانية. المخاوف متبادلة بين الإيرانيين والباكستانيين. مجرّد القبول وتقبل بناء الجدران، يعني سقوط أوهام التمدّد. وقد يأتي الوقت لبناء جدار بين العراق وإيران، خصوصاً أن العراقيين قد تعبوا من الحروب ومن التمدّد الإيراني الذي عمّق الخلافات المذهبية الخطيرة على مستقبل الجميع لأن المنطقة محكومة جغرافياً بتمدّد هذا «الوباء» عبر «خواصرها» الضعيفة..