في مثل هذا اليوم من العام 1989 فقد لبنان أحد أهم رجالاته في الدعوة الى الوحدة و الحوار والإعتدال، إنه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد الذي استطاع في غمرة الحرب الأهلية اللبنانية أن يبني جسور الحوار والتلاقي والتصالح بين اللبنانيين جميعا، وقد شكّل الشيخ الشهيد رفعة أساسية إلى جانب الإمام موسى الصدر ضد الحرب الأهلية فكانت مواقفهم واضحة ضد الحرب والإغتيال والتقسيم والإقتتال الداخلي .
في مثل هذا اليوم من العام 1989 هزّ صوت الانفجار الضخم بيروت، وظهر الدخان الأسود من جهة عائشة بكار. كانت عبوة كبيرة جداً، وكان صوتها أقوى بكثير من صوت القذائف المدفعية التي تساقطت في تلك المرحلة، وكان المستهدف هو الرجل الذي لم يقطع الصلة الداخلية بين اللبنانيين لإيمانه بعودة السلام وتوقف آلة القتل.
يوم استشهاده قال الكثيرون أن سادة الحرب لم يريدوا لهذا الرجل أن يستكمل أحاديثه العلنية أمام الناس رفضاً للقتال والحرب وكذلك إشارته علناً إلى من يقوم بقصف المناطق الآمنة. كان واضحاً ولا يعرف الهروب من الواقع، وخصوصاً بعد قصف بيروت بقذائف عيار 240 ملم التي هدمت بيوتاً على رؤوس عائلات آمنة. لم يصمت يومها لأنه كان متأكداً من ان حكم التاريخ لن يسامحه إن سكت على الجرائم، وكذلك كان متأكداً ان جرائم الاغتيال لن تتوقف لا قبله من كمال جنبلاط وبشير الجميل وغيرهما ولا بعده حين أكملت خلال أشهر على النائب ناظم القادري وكذلك الرئيس الأول لجمهورية الطائف رينيه معوض.
يوم استشهاد مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد في منطقة عائشة بكار، كان معروفاً لدى الناس في بيروت أن الانفتاح ورفض الحرب والسلاح والاقتتال بكل أنواعه هو الذي أوصل رجل الحوار إلى الاستشهاد. فالتقاتل اليومي بل أشكاله بين غربية وشرقية وبين زواريب بيروت وأحيائها، وبين بيروت وضاحيتها، وتنقل القتل والاختطاف والنهب المتفلت من عقاله كان يدفع الشيخ الشهيد إلى رفض هذا الواقع والمطالبة بتغيير الظروف ومنع تفلت سلاح الميليشيا والأسلحة الأخرى على حياة المدنيين.
في ظل تلك المرحلة، حاول المفتي خالد القيام بدور حواري للتخفيف من حدّة هذا القتل المجاني، فتنقل في المناطق الممنوعة واستقبل البطريرك في دار الفتوى. كانت لائحة الشهداء المدافعين عن وطنهم تكبر يوما عن يوم ، وكانت كوكبة الشهداء التي سبقته تؤكد ان الهدف من الاغتيال هو الاستمرار في الحرب كنوع من تنفيس للاحتقانات الإقليمية المحيطة بلبنان. مع الشهداء الذين كانوا يسقطون كل يوم، كانت المراحل تنتقل من سيئ الى أسوأ، وكان استشهاد المفتي خالد اعلان الانتقال إلى مرحلة جديدة من عمليات الاغتيال السياسي والديني، التي استمرت بفترات زمنية متقطعة ووصلت إلى عمليات الاغتيال التي شهدها لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005.
اقرا ايضا : بعد إجتماع عين التينة الرئيس بري يحسم أمره
كل الذين يعرفون المفتي الشهيد يؤكدون أنه قائد وطني سلمي ضد السلاح غير الشرعي وضد الحرب والفتنة التي قضت على آمال اللبنانيين بالسلم، وهو الذي تصدر مسيرة المواجهة عند أدقّ المفاصل الوطنية. من قمم عرمون التي عقدت في منزله في العامين 1976 و1977، إلى خطبة العيد في الملعب البلدي في العام 1983 حيث أصرّ يومها على تأكيد تساوي مواطنية كل اللبنانيين في وجه الحرب التي كانت تتحرك تحت رماد الصراعات في فترة من التهدئة البسيطة. القمم السياسية وكذلك الروحية واللقاءات الوطنية التي ساهم بها، كان جلّ همّها ايجاد الحلول لحقن الدماء وايقاف الحرب ومنع القتال. كان من دعاة الحوار البناء وقد مارسه قولاً وفعلاً، كما طالب بضرورة الاصلاح السياسي في مطلبين أساسيين المساواة بين جميع اللبنانيين من كل الطوائف والحفاظ على عروبة لبنان.
المقربون منه يؤكدون أن الشهيد خالد لم يكن يحب التدخل في العمل السياسي وكان يرى أن قيام الدولة يحتاج إلى تعاون بين الجميع، حيث يقوم كل بعمله، لكن ظروف لبنان في الحرب أجبرته على الدخول في المواجهة مع الواقع الصعب والمرّ الذي كان أمراً لا يمكن السكوت عنه. عمل طويلاً وحاول ابراز وجهة نظره الداعية إلى الحوار والسلم الأهلي والعمل الديموقراطي، ولم يكن من الموافقين على كل أنواع السلاح الموجودة خلال الحرب ما عدا سلاح الجيش، وهو بإيمانه وحكمته ووعيه حاول كثيراً مع رفاق له من سياسيين وروحيين تجنيب الوطن التفتت والتشرذم والتقسيم.
ولد الشيخ حسن خالد في مرحلة تأسس فيها لبنان الكبير، في بيروت عام 1921، كانت المنطقة تخرج من الحرب العالمية الأولى، ومن المجاعة والأمراض التي فتكت بمئات الآلاف. ولد في الوقت الذي بدأ لبنان يبني هويته الخاصة، ويوم استشهاده كانت الحرب الأهلية تقترب من نهايتها بعد التوصل إلى اتفاق النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية.
تلقى المفتي خالد دروسه الإبتدائية في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، وتابع دراسته المتوسطة والثانوية في الكلية الشرعية (ازهر لبنان حالياً) حيث كان يعدّ نفسه للتحوّل إلى السلك الديني، وتلقّى تعليمه الجامعي في جامعة الأزهر الشريف، في القاهرة، حيث نال الشهادة الجامعية «الليسانس« في العام 1946.
عاد في تلك الفترة إلى بيروت وبدأ حياته أستاذاً في الكلية الشرعية في بيروت لمادتي المنطق والتوحيد، ثم عمل موظفاً في المحكمة الشرعية وواعظاً في المساجد، ومن بعدها تنقل في عدد من الوظائف «الشرعية« بين بيروت وعكار وجبل لبنان.
وفي العام 1966 تم اختياره لمنصب الإفتاء في الجمهورية اللبنانية، حيث بدأ العمل العام بين الدين والسياسة. كانت صلاته تبدأ مع الانفتاح على رجال الدين في الطوائف والمذاهب الأخرى وكذلك في العلاقة مع السياسيين من مشاربهم كافة، فترة تسع سنوات قبل بدء الحرب الأهلية كان فيها لبنان يعيش أفضل أوقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
في بداية الحرب الأهلية عقد حوار بين القوى السياسية المتحاربة في منزل المفتي في عرمون، سمّيت يومها قمم عرمون، هذه القمم التي فتحت نقاشاً طويلاً لم يستفد منه اللبنانيون، بسبب تعنتهم على مواقفهم وبسبب التدخلات الاقليمية التي منعت كذلك اي تواصل يؤدي إلى وقف الحرب الأهلية.
حافظ حسن خالد على علاقاته مع كل القوى السياسية لكنه كان صريحاً في كل الأوقات حيث واجه أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية قبل الاجتياح الاسرائيلي وأخطاء الأحزاب اللبنانية وكانت خطبه دائماً ما تهاجم أصحاب الأمر الواقع.
اقرا ايضا: لماذا الحريري وليس عون؟
يعتبر المفتي خالد شخصاً جريئاً يرفض السكوت عن الظلم، وكذلك كان من المؤمنين بلبنان وطناً لكل أبنائه، وهو الذي شارك في حوارات طويلة مع الكثير من السياسيين ورجال الدين من الإمام موسى الصدر إلى البطريرك الماروني
يش وغيرهما. كان يصرّ دائماً على رفض الحرب والقتال، لأنه كان يرى ان لا السلاح ولا الحروب ولا تسليح الطوائف تخلّص لبنان من العبثية، لذلك ظلّ طوال الحرب بعيداً من تأييد أي قوة ميليشيوية حملت سلاحها وقاتلت فيها. كان الكثير من اللبنانيين الرافضين للحرب يعتبرونه ممثلاً لهم في ظلّ حرب القتل والتهديد، ولعل في مشاهد المواطنين الذين اعتصموا أمام دار الفتوى في الأعوام 1986 و1987 تأكيد حي على تمثيله للناس الذين لا يحملون السلاح ولا يقاتلون.
في آخر حوار صحافي اجري معه كان قلقاً على مصير لبنان، الا انه كان يعلق آماله على القمة العربية التي كانت على وشك الانعقاد لبحث سبل وقف الحرب وإعادة الامن والاستقرار والسلم الى لبنان، كان متفائلاً في الوقت نفسه من إرادة اللبنانيين في المنطقتين الشرقية والغربية لتجاوز الحالة الشاذة.
وبالفعل، انعقدت القمة العربية لكن بعد استشهاده تقرر بناء لنتائجها تهيئة المناخات الدولية والعربية واللبنانية التي أمنت ولادة «وثيقة الوفاق الوطني« في مدينة الطائف السعودية بجهود اللجنة العربية الثلاثية العليا التي ضمّت السعودية والمغرب والجزائر.