فور الحديث عن «المناطق الآمنة» سارعت أقلام ووسائل إعلام لبنانية وأجنبية الى التأكيد أنّ تركيا والأردن وعدداً من الدول التي تستضيف النازحين السوريين أنجزت إجراءاتها لنقلهم الى هذه المناطق، ما عدا لبنان الغارق في ملفاتهم، والذي يجهد سعياً وراء جباية الأموال والمساعدات وإحصاء الكلفة المباشرة وغير المباشرة التي مُني بها وبلغت على حدّ ما قدّرها الرئيس سعد الحريري في مؤتمر الدوحة خمسةً وعشرين مليار دولار حتى الآن.
وأمام هذه الروايات التي سبقت أيّ ترتيبات خاصة بهذه المناطق فقد سخر معنيّون بالملف من شكلها ومضمونها والتوقيت، ليس لسبب سوى أنّ مطلقي هذه الروايات يهوون «جلد لبنان» من دون مراعاة الحقائق المحيطة به.
ويضيف هؤلاء أنّ الحديث عن المناطق الآمنة ما زال مبكراً، فمَن أطلق الفكرة ما زال يبحث في آلية وإمكان تنفيذها في انتظار أن تبدي أطراف أخرى رأيها فيها. فلا يكفي أن يقول الثلاثي الراعي للمشروع، تركيا وروسيا وطهران، لتتحوّل أمراً واقعاً. فهذه الدول لم تُجمِع بعد على مواقع هذه المناطق وحدودها في انتظار أن يقول اللاعبون الآخرون على الساحة السورية كلمتهم.
فالولايات المتحدة الأميركية التي نادى رئيسها دونالد ترامب بإنشاء هذه المناطق بالتزامن مع الضربة الصاروخية التي وُجِّهت الى قاعدة الشعيرات في 7 نيسان الماضي، لم يقل كلمته بعد.
وليس من الواضح أنّ ما قصده «ثلاثي أستانة» يتجاوب مع الخطط والرغبات الأميركية ورؤيتها لهذه المناطق في شكلها ومواقعها وطريقة إدارتها رغم أنّ لكل المشاريع المشابهة آلية واحدة سبق للأمم المتحدة أن حدّدتها وفق معايير عسكرية وديبلوماسية دقيقة جداً اعتُمدت في أكثر من منطقة في العالم. فالسوريون والعراقيون لم ينسوا بعد الآليات التي اعتُمدت عند تحويل الشمال العراقي «منطقة آمنة ومحظورة» إبان الحرب الأميركية على العراق عام 2003.
وفي هذه الأجواء تتّجه الأنظار الى الأمم المتحدة التي تدرك حجم العقبات وقالت إنها تجري محادثات مع إيران وروسيا وتركيا في شأن الجهة التي يُفترض أن تسيطر على مناطق خفض التصعيد في سوريا بعد رفض دمشق انتشار أيّ مراقبين دوليين. فالمعاونون لموفد الأمم المتحدة ستيفان دوميستورا ومنهم المستشار للشؤون الإنسانية يان إيغلاند كشف قبل أيام أنّ الدول الثلاث راعية «اتفاق أستانة» لم «تُنجز بعد تفاهماتها في شأنه» وهو ينتظر ما سيقرّرونه بشأن «مَن سيضبط الأمن والمراقبة» مع أخذ آراء الأمم المتحدة بهذا الشأن في الاعتبار، لافتاً أنّ «لدينا ملايين الأسئلة والمخاوف» التي تضع المشروع في نقطة تتعادل فيها حظوظ النجاح والفشل معاً.
وأمام مسلسل العقبات هذه التي تحول دون تحديد هذه المناطق، يُطرَح السؤال حول وجود حصة للنازحين السوريين في لبنان أو عدمه. ومتى وكيف؟ وهو أمر يقضّ مضاجع المسؤولين اللبنانيين، فتركيا استوعبت كثيراً من ردات الفعل السلبية التي تركها النزوح على أراضيها، والأردن نجح في حصرهم في مخيمات محددة الأمر الذي لم يتحقق في لبنان الذي يشهد وجود أكثر من 1600 مخيم عشوائي.
وأضف الى ذلك، يعترف المسؤولون اللبنانيون والأممَيّون المعنيون بالملف أنّ بعض المناطق المحتمل إعلانها آمنة تجاور الحدود التركية. فالمنطقة التي يديرها الأتراك تبدو أكثر جهوزية من غيرها. ولو إفترضنا أنّ المنطقة الجنوبية الآمنة ستجاور الحدود الأردنية كما تسرَّب من التفاهمات الأخيرة، فهي لم تكتمل بعد في انتظار أن يدخل «الجيش السوري الحر» مدعوماً بالقوات الأميركية والبريطانية والأردنية، المنطقة السورية المحاذية للحدود الأردنية تمهيداً للإعلان عنها.
وأمام هذا الكم من العقد التي تحول دون الحديث عن هذه المناطق، فإنّ على لبنان واللبنانيين انتظار كل هذه المراحل لبدء البحث عن منطقة تجاور الحدود اللبنانية وسط حديث عن احتمال أن تكون منطقة القلمون السورية المجاورة للحدود اللبنانية وهو أمر بعيد المنال يقارب الوهم. وإنّ مَن يفكر بهذه العملية عليه أن ينتظر كثيراً. فالنظام السوري رفض مبدأ المراقبين، فكيف سيسمح بإعادة تكوين مناطق تناهضه بعدما بلغت كلفة «تحريرها» ما بلغته.