قبل استئناف المفاوضات السورية في جنيف في 16 مايو، وبعد توقيع مذكرة تفاهم أستانة حول “مناطق تخفيف التصعيد” في 4 مايو، أتت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى واشنطن في 10 مايو واجتماعه مع نظيره الأميركي ريكس تليرسون ومع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لتؤكد بدء تقارب تدريجي أميركي – روسي حول الملف السوري تحديدا، ويندرج ذلك في سياق احترام أولويات كل طرف وتنسيق في إطار الممكن، من دون بلوغ ترتيب شامل سيستدعي ربما إنجازه بعض الحروب الصغيرة والمساومات والصدمات والمفاجآت ضمن مسارات “اللعبة الكبرى الإقليمية والدولية” التي تتخذ من الساحة السورية نقطة ارتكازها.

بعد قرن على “اتفاقية سايكس-بيكو”، راهن العديد من المراقبين والمتابعين على بلورة تقاسم مشابه للمشرق أو إعادة تركيب للإقليم عبر اتفاقية جدية تحت مسمى “كيري-لافروف”، لكن الاستعصاء في الملف السوري وضخامة الرهانات على مآله أسقطا ذلك. وبينما ترك جون كيري الملف وغادر وزارته نهاية 2016، بقي العراب سيرجي لافروف ممسكا بهذا الملف تحت العين الساهرة للقيصر الجديد.

وها هو يدخل من جديد إلى البيت الأبيض الذي لم يستقبله سيده منذ 2013، بسبب مناخ من الحرب الباردة اندلع بين الكرملين وإدارة باراك أوباما. والملفت أن لافروف عاد إلى واشنطن من بوابة الملف السوري، وذلك بناء على طلب فلاديمير بوتين الذي اقترح على نظيره دونالد ترامب منح هذه الفرصة له ليطلعه بالتفاصيل على اتفاق أستانة. واللافت أيضا أن وسائل الإعلام الأميركية لم تقم بتصوير مصافحة ترامب – لافروف على عكس وسائل الإعلام الروسية التي سارعت إلى نقلها وتعميمها، وذلك يبين حرص الرئيس الروسي على انتزاع “تنسيق” مع واشنطن يحتاج إليه مليا للخروج من عزلته الدبلوماسية حيال المسألة السورية.


وهذا يعني كذلك أن الضربة العسكرية الأميركية المحدودة ردا على هجوم خان شيخون الكيميائي، جرى تجاوزها واستوعبت موسكو صدمتها وانبرى الرئيس بوتين من خلال مسار أستانة ليعيد الإمساك بزمام المبادرة وجعل الورقة السورية معبره المفضل نحو المقايضة الكبرى مع واشنطن حول كل المسائل الخلافية ومنها أوكرانيا والعقوبات ضد روسيا. وهذا التهافت الروسي على طلب التنسيق مع ترامب أو على الأقل الرضا الضمني أو التغاضي من قبل واشنطن إزاء اتفاق أستانة، يعني أن كل إنجازات ومكاسب روسيا في سوريا لم تكن لتتم من دون تسهيل أو صمت أو عدم مبالاة واشنطن في عهد الإدارة السابقة.

بعد منعطف حلب نهاية 2016 والضربة القاسية التي تعرضت لها القوى السورية المعارضة، راهنت موسكو، في سباق مع الوقت قبل بلورة سياسة ترامب السورية، على التوصل إلى حل سياسي يحمي مصالحها ويعيد تأهيل النظام السوري في عيون الغرب وواشنطن تحديدا. بيد أن التطورات الميدانية وضربة قاعدة الشعيرات دفعتا إدارة ترامب لتبني موقف متشدد من بقاء بشار الأسد من دون الذهاب إلى حد الصدام مع موسكو، إذ أن الرهان الأساسي في واشنطن يتمركز على فك الارتباط الاستراتيجي بين موسكو وطهران، وقيام روسيا بكبح جماح النظام السوري- كما طالب ترامب لافروف- تمهيدا لإنجاح الحل السياسي الانتقالي وفق القرارات الدولية.

من هنا يمكن فهم العجلة الروسية والضغط الروسي باتجاه التوصل إلى توقيع مذكرة تفاهم أستانة التي تنص على إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد بضمانة كل من موسكو وأنقرة وطهران. وجاء الاتفاق عقب المكالمة الهاتفية الطويلة بين الرئيسين ترامب وبوتين، بحضور مساعد وزير الخارجية الأميركي بالنيابة لشؤون الشرق الأدنى بعد ذلك كمراقب خلال محادثات أستانة.

تتوجب الإشارة إلى أن استخدام تعبير “مناطق تخفيف التصعيد” بدل تعبير “مناطق آمنة” لا يتصل فقط بالسابقة الكارثية لهكذا مناطق خلال حرب البوسنة (مجزرة سريبرنيتشا في 1995)، بل لأن ذلك يتطلب ضمانات أمنية وحظر تحليق الطيران. أرادت القيادة الروسية على الأرجح استباق إعلان واشنطن عن خطتها للمناطق الآمنة وحاولت من خلال صيغتها “التخفيفية” تمرير الوقت أو تسوير مناطق النظام في ما يطلق عليه “سوريا المفيدة”. ولوحظ خلال زيارة لافروف إلى واشنطن محاولة روسيا إغراء الجانب الأميركي أو استدراجه للاهتمام بمنطقة تخفيف التصعيد في الجنوب السوري وصلة ذلك بمصالح الأردن وإسرائيل الأمنية والوضع على المثلث الحدودي العراقي – الأردني – السوري.

وقد تسربت من محادثات أستانة رغبة روسية في وقف تمدد إيران والميليشيات التابعة لها والوعد بانسحابها لاحقا (تلميح أمين عام حزب الله إلى الانسحاب من سوريا ورد في خطابه الأخير) وقد ساعد التوتر الأميركي-التركي حول معركة الرقة ودور الأكراد، على انغماس تركيا في اتفاق أستانة لأنه يؤمن لها منطقة نفوذ في إدلب، بينما تلعب روسيا الدور الأساسي في المناطق قرب حمص ودمشق. والأدهى في هذا الاتفاق كونه يسعى لتشريع مناطق نفوذ مما يهدد على المدى الطويل ببلقنة سوريا.

بينما تركز واشنطن جهدها تحت ستار محاربة الإرهاب على بسط السيطرة على الطبقة والرقة ودير الزور عبر الميليشيات السورية المتعاونة معها (قوات سوريا الديمقراطية في الشمال وقوات من الجيش السوري الحر في الشرق) وذلك يقطع نظريا الصلة البرية للعراق وإيران مع سوريا، يتضح أن موسكو لا تعرقل جهود واشنطن مقابل تفهم واشنطن اتفاق خفض التصعيد مع إبداء التحفظ على الدور الإيراني.

بانتظار جولة ترامب في الشرق الأوسط في هذا الشهر، ولقاء القمة المرتقب بين الرئيسين الأميركي والروسي بداية يوليو على هامش قمة العشرين في هامبورغ، لن تتضح كل معالم الصورة حول التسويات حيال المسألة السورية وآفاق الاقتراب من الحل الواقعي المنشود بدل التمويه عبر الاتفاقات العابرة والإنجازات المحدودة.