هلع يسود المجتمع الشوفي، مع تزايد ظاهرة الإنتحار في صفوف شبان بعمر الربيع فارقوا الحياة في أوقات مختلفة وفي غضون أسابيع قليلة، ست حالات في الشوف منذ مطلع العام الحالي ، بعضهم وجد مقتولاً وبيده بندقية صيد، صوّبها باتجاه جسده لسببٍ مجهول، أو ربما صوّبت رصاصة لعينة بارودها القاتل لتخطف روح الشاب العشريني عندما كان يعمل على تنظيف البندقية ، لا أحد يعلم حقيقة الأمر.
مثل هذه الحوادث تحدث في الشوف مرة كلّ سنوات عدة، لكن أن تتسارع وتيرتها دفعة واحدة، لتفقدَ قرىً متعددة في تلك المنطقة خمسة شبان في غضون أسابيع، قضوا انتحاراً، أو ربما عن طريق الخطأ، ففي الأمر مصيبة تقضّ مضاجع الشوفيين. في عقيدة أهالي الشوف من طائفة الموحدين الدروز أنّ من ينتحر لا تصح الرحمة على روحه، لأنّه قتل نفساً .
ولكن هل تكفي هذه المقاطعة لوضع حدٍّ لظاهرة الإنتحار؟
قطعاً لا، بدليل تعدد مثل هذه الحالات في الآونة الأخيرة ولا بدّ من البحث عن الأسباب والدوافع التي قد لا تكون مادية في مجمل الحالات كما يتراءى للغالبية.
ما حقيقة الأمر؟ هل فعلاً قرر أياد إنهاء حياته، وهو الطالب الجامعي الهادىء والخلوق والمفعم بالحياة والطموح ، فقط لأنّ فتاة فيسبوكية لعينة، نشرت صوره بشكلٍ مخلٍ للآداب وأرسلتها إلى حساب أصدقائه، فلم يحتمل هول المصيبة، دخل غرفته وأطلق رصاصة باتجاه روحه المصدومة المحرجة أمام مجتمعه؟
هذا ما يتناقله أهالي بلدته مرستي، فأياد الذي يدرس هندسة في السنة الثالثة، رحل ومعه سره، ويقال إنّ ما وُجد على هاتفه المحمول تهديد من تلك اللعينة او اللعين، عرّفت عن نفسها بأنها فتاة تونسية معجبة، لتبدأ عملية استدراج إياد عبر مواقع التواصل الإجتماعي وصولاً إلى نشر الصور والبدء بابتزازه. هي أخبار تتناقلها الألسن من دون أنّ يأكّدها لنا أيّ مصدر موثوق، معارف إياد يتحدثون مطولاً عن صيته الحسن ودماثة أخلاقه وتفوقه الدراسي، فهل فعلها ذاك الشاب وأنهى حياته وحرق قلوب أهله ومحبيه، خوفاً من صورٍ أو فضيحة؟ وإذا ثبت أنّ وراء انتحار شاب بعمر الورود مافيا تستغل شبابنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي، لتوقعهم في شباكها من أجل حفنة من الدولارات، فأنّ إياد ضحية لجريمة احتيال عابرة للحدود، قد تصطاد ضحايا مماثلة في أيّ لحظة .
ألاً يستدعي الأمر حملة توعية إعلامية واسعة النطاق تستهدف الشباب والمراهقين وتشمل مساحة الوطن، وتنبه الشباب إلى خطورة التحدث مع مجهولين على شبكة الإنترنت؟ أليست هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الإجهزة المختصة في الدولة، لاسيما وزارتا الإعلام والتربية، للقيام بحملة توعية تتشاركا فيها مع مجمل وسائل الإعلام كي لا نخسر إياداً آخر؟ هل نلقي اللوم على إياد وهو الضحية، ونمضي وكأن شيئاً لم يكن؟ ألا نخاف على أولادنا المسمّرين أمام شاشات الكومبيوتر والهواتف من جرائم المعلوماتية؟ ومن مصائر مأساوية مشابهة؟
ماذا عن ماجد ابن الخامسة والعشرين عاماً، من مزرعة الشوف، هل فعلاً قاده شجار عبر التلفون عند الساعة الحادية عشرة ليلاً مع أحد أصدقائه إلى الإنتحار؟ بحيث عمد إلى تحطيم هاتفه من شدّة غضبه، تمّ إلى الإنتحار؟ أم أنّه قُتل عن طريق الخطأ وهو يتلاعب بالبندقية؟ الروايات تتضارب في قضية ماجد، البعض يقول أنّ ما يحكى عن خلاف مجرد شائعات، فماجد كان هادئاً في منزل ذويه ينظّف البندقية، إلى أن خرجت منها طلقة وأودت بحياته، والبعض تحدث عن انتحارٍ، وراءه قصة عاطفية، فيما البعض الآخر أعاد السبب إلى الظروف الإقتصادية الصعبة التي يعانيها ماجد، كلها روايات فيما الحقيقة لا زالت غير معروفة، وجميع من في البلدة في حالة ذهول ممزوجة بالخوف، فماجد شاب هادىء ولا أحد يتوقع إقدامه على خطوة متهورة .
نانسي في الخامسة عشر ربيعاً قضت بطلقة نارية قبل شهرين في بلدة بعذران، وفيما وُجهت أصابع الإتهام إلى الخادمة في بادىء الأمر، تمّت تبرئتها لاحقاً، لترحل نانسي وتأخذ سرّها معها، وهي البت الصغرى لوالدةٍ ذاقت مرّ الحياة كلّه، وهي تربي أطفالها، بعدما توفي زوجها، من دون وظيفة تقيها العوز.
وفي بلدة العقبة في قضاء راشيا واجه يحيى ابن التاسعة عشر عاماً بعض المشاكل كما يقول المحيطون به، وبطلق ناري من سلاح صيد أنهى حياته تاركاً أهله مفجوعين. وفي آذار الماضي انتحر ابن بلدة قانا عن طريق تنشق الغاز في شاليه في كفرذبيان، وعمره لا يتجاوز أربعة وعشرين عاماً، وهو خريج جامعة القديس يوسف المعروف بأوضاعه المادية الممتازة . وفي بلدة النورة في عكار نشرت وسائل الإعلام خبراً عن شاب انتحر لرفض أهله خطوبته للفتاة التي أحب، وهكذا تطول القائمة لتشمل عشرات الشبان من مختلف المناطق.
هكذا وبكل بساطة تنتقل عدوى الإنتحار بين صفوف الشباب، وبطبيعة الحال ليس قضاء الشوف وحده يشهد حالات انتحار، أو موت برصاصة خاطئة، بل أنّ هذه الحالات تطال كل مناطق لبنان، وأرقام "الدولية للمعلومات" تشير إلى ارتفاع في نسبة الإنتحار عند اللبنانيين، ففي شهر كانون الثاني سُجّل 17 حالة انتحار، و8 حالات في شباط و11 حالة في آذار من العام الحالي، وسُجّل انتحار 128 حالة في العام الماضي، و138 حالة في العام 2015 ، و144 حالة في العام 2014 .
إنّها أرقام مخيفة يردّها علماء النفس إلى جملة أسباب، يأتي في مقدمها الوضع الإجتماعي والمشاكل الإقتصادية والبطالة والإدمان، عوامل تتواطىء مع ضغط خارجي ووضع نفسي غير سويّ، لتشكل أعباء وأثقالاً كبيرة قد تؤدي إلى الإنتحار، والشباب هم الفئة الأكثر عرضة لهذه الظاهرة، والأخطر أنّ السلاح الفردي متوفر في كل بيت لبناني، وفي متناول من يشاء من أفراد المنزل .
امام هذا الواقع الكارثي الذي وصل إليه جزء من شبابنا، الكل مدعو إلى تحمل مسؤولياته من الأسرة إلى المؤسسة التربوية ووسائل الإعلام والسلطات المحلية والوزارات المختصة وأصحاب رؤوس الأموال، لوضع وتنفيذ خطة طوارىء تشمل ليس فقط توعية الشباب إلى مخاطر الإستخدام الخاطىء للإنترنت والإصغاء إلى مشاكلهم ، بل إلى تأمين فرص عمل كي لا يشعر الشاب اللبناني بغربة داخل وطنه.