تتزامن المعركة الحامية بين الجماعات السياسية والطائفية على معاودة تشكيل السلطة في لبنان، من بوابة العبور إلى صناديق الاقتراع بقانون انتخاب تجري مفاوضات شاقة في شأنه، مع حروبٍ لاهبةٍ لمعاودةِ تشكيل المنطقة ودُوَلها على وقْعِ لعلعة صناديق الرصاص، في تحوّلاتٍ هائلة لم يشهدها الإقليم منذ نحو قرن، على غرار ما يحدث الآن في سورية والعراق واليمن وليبيا.
ففي اللحظة التي صارت المنطقة ملعب نار في “ميني” حرب عالمية – إقليمية مع مجيء الروس والاميركيين وأدوار الايرانيين والأتراك، وتَحوُّل كياناتها مجرّد جبهاتٍ مترامية لمواجهاتٍ بالمباشر وبالواسطة بين اللاعبين الكبار والصغار، يَشهد لبنان حرباً مشابهة، وإن من دون قرْقعة سلاح. فالصراع المتعاظم على السلطة في بيروت لا يقلّ ضراوة عما يجري في عواصم الاقليم وعلى امتداد “الأوعية المتصلة” في ما بينها.
ورغم “الأسماء الحرَكية” الكثيرة للصراع الشرس حول قانون الانتخاب فالأكيد أنه تحوّل مع ما يحوطه من نزاعاتٍ في لبنان وعليه الى “صندوق باندورا” فعلي يختزل بُعْدَيْن يتقاطعان في الطريق إلى رسْم توازناتٍ جديدة في البرلمان العتيد: مكانة الجماعات السياسية – الطائفية في لعبةِ تَقاسُم السلطة، وموقع لبنان الاقليمي في ذروة المواجهة الدائرة في المنطقة بين المعسكريْن العربي والإيراني.
ومن “صندوق باندورا” اللبناني هذا، يتطاير الآن خليطٌ من المنازَلات التي تنعدم معها الحدود بين السياسي والطائفي، وفوضى من تحالفاتٍ تَتقدّم وتَتراجع، وفائض من التدافُع الخشن على تخوم الهاوية… فالجميع يحاول إغراق المهلة الفاصلة عن اللحظة الحاسمة بين الاتفاق او المجهول في 20 حزيران المقبل، بمبادراتٍ ومناوراتٍ وعضّ أصابع في عملياتٍ متبادلة لترويض قانون الانتخاب المفترض على النحو الذي يعزّز مواقعهم في السلطة.
ويؤشر الصراع حول قانون الانتخاب إلى مأزق مزدوج جعل طرفي التحالف الذي جمع بين “التيار الوطني الحر” الذي كان يتزعّمه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و”حزب الله” على مدى 11 عاماً، وجهاً لوجه في مواجهةٍ بالواسطة يتولاها عن “التيار الحر” رئيسه الوزير جبران باسيل وعن “حزب الله” رئيس البرلمان نبيه بري، وتعبّر عن متغيراتٍ في الأدوار والأجندات كان المسألة الأكثر تأثيراً فيها انتقال عون من مرشّح للرئاسة الى… الرئاسة.
فعلى مدى 11 عاماً من “السمن والعسل” بين مشروع السلطة لـ“التيار الحر” والمشروع الاستراتيجي لـ“حزب الله”، تقاطعتْ مصالح الطرفيْن. الأول اتكأ لتكبير حجمه في السلطة على عضلات “حزب الله”، الذي وجد في استمالةِ هذا التيار المسيحي وسيلةً لانتزاع الإمرة الاستراتيجية عبر تشكيلهما بالتكافل والتضامن “الثلث المعطل” في الحكومات، كما في البرلمان الذي أُقفل بوجه انتخابٍ رئيس للجمهورية على مدى عامين ونصف العام.
الجنرال عون المرشّح للرئاسة غيْر الرئيس العماد عون… هذه الحقيقة التي كان يدركها “حزب الله” حين اضطرّته اللعبة السياسية للوفاء بعهده في انتخاب “الشخص الذي لا يُتوقع”، هي الآن قيد الاختبار الذي في ضوء خلاصاته يمكن أن تتحدّد قواعد جديدة للعبة في لبنان بعدما شكّلت معركة قانون الانتخاب منعطفاً في مقاربة التوازنات في السلطة والمرتبطة بمكانة الطوائف في إدارة الحكم والتحكم بالمكانة الإقليمية للبلاد.
ومن الواضح أن “حزب الله” عهد إلى بري، بعد انتخاب عون، التفاوض باسمه في المسائل الداخلية رغم معرفته بأن رئيس البرلمان الذي كان اشترط سلّة تفاهماتٍ قبل الإفراج عن الاستحقاق الرئاسي تشمل الرئاسة وقانون الانتخاب وجرى القفز عنها، لم يَرُق له انتخاب عون بعدما كان أبلغ الى قيادة الحزب انه على استعداد للسير بأيّ مرشح إلا عون، في موقفٍ يظهر الودّ المفقود بين الرجليْن.
وفي تعبيرٍ عن محورية قانون الانتخاب في معاودة تشكيل السلطة، لم يتردد بري في إعلان “الجهاد الأكبر” في الطريق إلى المفاوضات الشاقة في شأنه، وسط ريبة من مفاجآتِ عون الذي لم يتردد هو أيضاً في دفْن قانون الانتخاب النافذ (قانون الستين) وإعلانه الحاسم رفْض التمديد للبرلمان الحالي وتلويحه بإمكان المجازفة في القفز بلعبة الضغوط المتبادلة الى مرحلة ما بعد 20 حزيران، تاريخ نهاية ولاية البرلمان.
المسألة الجوهرية في مقاربة قانون الانتخاب التي تقلق “حزب الله” هي أن إصرار الثنائي المسيحي (التيار الحر والقوات اللبنانية) على الفوز بأكبر حصة من مقاعد النواب المسيحيين، من شأنه أن يعيد الاعتبار الى المناصفة الاسلامية – المسيحية على حساب “المثالثة” التي سعى الحزب الى إرسائها بالممارسة، حين أصرّ على انتزاع الثلث المعطّل تعبيراً عن فائض القوة وحجم الأدوار التي ضاقت عليها التركيبة القائمة.
وبهذا المعنى فإن استعادة المسيحيين المناصفة تجعل السنّة والشيعة “ربعين” في المقلب الإسلامي ما يحرم “حزب الله” قدرته على كسْب حجمٍ يلائم أدواره وفائض القوة الذي يتمتع به، ليمكّنه تالياً من الاستمرار في الإمساك بالإمرة الاستراتيجية أو فرْض وقائع من خارج التوازنات القائمة في إدارة الحكم.
ورغم أن “حزب الله” كان يتكئ على تحالفه مع “التيار الحر” لتطويع التوازنات داخل السلطة (الثلث المعطل، الاطاحة بحكومة الحريري في العام 2011)، فهو لم يكن يتردد في استخدام أساليب أكثر خشونة في هذا السياق، على غرار عمليته العسكرية في بيروت وبعض الجبل في 7 أيار 2008 واستخدام القمصان السود لإقصاء الحريري عن السلطة والإتيان بحكومةٍ تَرأسها نجيب ميقاتي.
والمفارقة اللافتة في هذا السياق أن “حزب الله”، صاحب الايديولوجية الدينية انبرى أخيراً الى الدعوة وبإلحاح الى الحاجة لإلغاء الطائفية السياسية التي تتيح له القفز فوق المناصفة الاسلامية – المسيحية في البرلمان، كمشروعٍ متقدّم عن خياره الانتخابي المتمثّل بالنسبية الكاملة، لضمان العبور الى السلطة بكتلةٍ نيابية مرجّحة تتيح له اجراء تعديلات تراوده في آليات الحكم.
وفي تقدير أوساط مهتمّة أن سعي الثنائي المسيحي للقبض على الحصة المسيحية في البرلمان يشكل حاجزاً في ساحة النجمة على مشارف البرلمان لا يقلّ وطأة عن قطْع الأميركيين الطريق بين العراق وسورية عند البوكمال.
الراي الكويتية