يكشف التهديد الذي وجهته إيران باحتمال تدخلها العسكري في باكستان عن قلقها المتنامي من جدية الضغوط الدولية والإقليمية التي تتصاعد يوما بعد آخر. واللافت في تلك التهديدات أن طهران بدأت تتحسس تحولا في موقف باكستان بما قد يحوّل أي احتكاك غير محسوب إلى صدام بين الدولتين، وبما قد يطور الفتنة السنية الشيعية التي تجري بوجوه مواربة إلى مواجهة كبرى لا تريدها إيران ولا تسعى لها باكستان.
ولا ريب أن تصاعد اللهجة الكلامية لطهران حيال الجار الباكستاني يضع إسلام أباد أمام حرج داهم، وهي ما فتئت تسعى للحفاظ على توازن في علاقاتها ما بين السعودية وإيران. وبكلمة أخرى، فإن قلق طهران بات متوهجا يطالب باكستان بتوضيح موقفها إزاء ذلك الصراع بين إيران والسعودية، والذي بات السجال في شأنه أكثر حدّة منذ تصريحات ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الأخيرة.
يعلن قائد القوات المسلحة الإيرانية محمد باقر أن بلاده قد تلجأ إلى عمل عسكري على الحدود بين البلدين إن لم تتصدّ إسلام أباد لمن وصفهم بالمتشددين الذين ينفذون هجمات عبر الحدود. وفي ذلك الوعيد ما يعد بأن يشمل الأمر قصف قواعد الجماعات المناوئة، وربما القيام بعمليات توغل داخل الأراضي الباكستانية.
تأتي التحذيرات الإيرانية بعد قيام جماعة جيش العدل مؤخراً (28 أبريل)، ضمن عمليات حدودية تنفذها دائما، بهجوم تسبب بمقتل نحو عشرة جنود إيرانيين في منطقة مرجا الحدودية. ولا يعتبر أمر الوعيد الإيراني سابقة، فقد هددت طهران عام 2014 بإرسال قوات إلى داخل الأراضي الباكستانية لاستعادة خمسة من حرس الحدود الإيراني اختطفتهم جماعة جيش العدل.
يعمل البلدان على ممارسة علاقات ملتبسة يشوبها الكثير من اللاقول وجرعات مفرطة من النفاق. تهوّل طهران وتتوعد، فتقوم إسلام أباد عادة بتدوير الزوايا وتهدئة الأمور للحفاظ على ماء الوجه في علاقات تتعقّد كلما توضحت سياسة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة. كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قد زار إسلام أباد على عجل (3 مايو الجاري) على رأس وفد ضم أمنيين وعسكريين لمعالجة الإشكالات الحدودية، لكن تولي العسكر في إيران تهديد باكستان، يعكس قناعة في طهران أن دورا ما تلعبه وستلعبه باكستان ضمن ذلك التحالف الأميركي الإقليمي الذي تُرسم ملامحه ضد إيران.
في طهران من يعتبر أن الجماعات المسلحة التي تنشط في بلوشستان داخل الأراضي الباكستانية هي جزء من مخطط خارجي لتأليب الأقليات الإثنية داخل إيران، وأن الهجمات التي تقوم بها هذه الجماعات تمثّل حربا بالوكالة يخوضها “أعداء الجمهورية الإسلامية” في العالم. وعليه، ووفق هذا التقييم، بدأت إيران تشعر أن الحرب تنتقل إلى داخل إيران، تماما كما لمّح الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الأخيرة مع الزميل داود الشريان بـ”أننا لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سوف نعمل لكي تكون المعركة لديهم في إيران”.
المسألة هذه المرة بالنسبة إلى إيران، لا تتعلق بأعمال تقوم بها جماعات “خارج السيطرة”، لكنه تفصيل آخر يصبّ زيتا على نار علاقات متوترة بين إيران وباكستان، منذ أن سمحت إسلام أباد، وفق ما أعلنه وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف، للقائد السابق للجيش الباكستاني الجنرال المتقاعد رحيل شريف بأن يصبح قائدا للتحالف العسكري الإسلامي الذي أعلنته السعودية والذي يضم 39 بلدا.
جهدت باكستان لتفادي الحرج مع إيران بطلب ضم إيران لهذا التحالف، لكن رد الرياض كان حاسما وسلبيا في هذا الصدد، تاركا للجانب الباكستاني معالجة أمر “حرجه” مع طهران. تحفظت إيران على أمر تعيين شريف ونُقل عن السفير الإيراني لدى باكستان مهدي هوناردوست، قوله إن طهران أبلغت إسلام أباد رسميا، بأن لديها ملاحظات حول موافقة الأخيرة على تعيين شريف في هذا المنصب، دون توضيح هذه الملاحظات.
“لا يُلدغ المرء من جحر مرتين (…) ونعرف أننا هدف رئيسي للنظام الإيراني”. هذه كلمات الأمير محمد بن سلمان، تأتي لتضاف إلى إفادة خطيرة أدلى بها، في أبريل الماضي، الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل، الذي يقود القيادة الوسطى، والذي تقع في نطاق مسؤولياته 21 دولة في آسيا وإفريقيا، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب في الكونغرس، قال فيها إن إيران مصدر رئيسي لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
ذهب الرجل أبعد من ذلك. قال إنه يطلب من قيادة البنتاغون توحيد الموقف مع الرئيس ترامب بخصوص إيران، والاستعداد لاستخدام تدابير عسكرية ضد هذا البلد، الذي تواصل قيادته “وضع العقبات المختلفة أمام حركة القوات المسلحة الأميركية في الشرق الأوسط”. لم تعد إيران في الأعراف الأميركية قوة يجب استيعابها بتوقيع اتفاق نووي معها وفق “عقيدة” أوباما، بل صارت خطرا على أمن الولايات المتحدة وحراكها العسكري في العالم، وفق فقه ترامب.
تتوجس إيران من خطط لدى خصومها لنقل الحرب إلى داخل حدودها ردا على تمددها خارج هذه الحدود. وإذا ما تغيب أيّ تصريحات أو تلميحات أميركية أو سعودية عن دعم للأقليات الإثنية في الداخل الإيراني أو للمعارضة الإيرانية في الخارج، إلا أن مشاركة الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية والسفير السابق للمملكة في لندن وواشنطن، في مؤتمر “مجاهدي خلق” بباريس في يوليو الماضي، أثارت أسئلة كثيرة عن خطط سعودية لدعم المعارضة الإيرانية، ولا سيما ما ذهب إليه الفيصل في عبارته “أنا أريد إسقاط النظام”.
لا يمكن البناء على مواقف تركي الفيصل الذي لطالما كان يردد أن مواقفه شخصية لا علاقة لحكومة بلاده بها، لكن لا يمكن إلا التأمل في الحدث والموقف وفي شخص من أصدره، قبل عام، للتساؤل حول تفاصيل استراتيجية الرياض حيال الخطر الإيراني، ولا سيما إذا ما عُطف ذلك على تصريحات محمد بن سلمان بعد عام، عن نقل الحرب إلى إيران.
تأخذ طهران أمر ذلك على محمل الجد دون البحث عن تأويلات للتصريحات والمواقف. صدر الموقف السعودي عن وزير الدفاع فكان رد نظيره الإيراني عاجلا. وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان يعتبر نقل الحرب إلى إيران “حماقة” وإيران لن تُبقي أي مكان آمن في السعودية باستثناء الأماكن المقدسة إذا ارتكبت هذه الحماقة.
اختارت إيران أن يرد وزير دفاعها من على قناة المنار التابعة لحزب الله للإيحاء بامتداد طهران في المنطقة، وبالإمكانات والأساليب واللوازم التي تمتلكها للرد على السعودية. بيد أن الأدوات الإيرانية تبقى هزيلة إذا ما قورنت بجهد باكستاني مزعوم للضغط على النظام الإيراني من خلال دعم حراك البلوش في إيران الذين يحظون بدعم البلوش في الجهة المقابلة من الحدود.
على أن انخراط باكستان في الصراع مع إيران من منطقة البلوش الباكستانية سيسبب احتكاكا مع الصين التي تستثمر حوالي 56 مليار دولار في البنى التحتية ومشاريع الطاقة في تلك المنطقة، ناهيك عن المشاريع المتعلقة بمرفأ غوادر. ولا تود الصين، التي تحاول كباكستان الحفاظ على توازن في العلاقة بين إيران والسعودية، أن تتعرض استثماراتها لمخاطر أي صراع، كما لا تود أن تضطر إلى الخيار بين طهران والرياض في أي احتمال تفاقم أي صراع بينهما.
واللافت أن بكين لم تبد أي إلحاح في انتقاداتها لباكستان في هذا الصدد، فهي منعت أواخر ديسمبر الماضي، بطلب من باكستان، الأمم المتحدة من إدراج مسعود أزهر، زعيم إحدى الجماعات الباكستانية، والذي تعتبره الهند إرهابيا، على لائحتها السوداء، علما أن أنباء تتحدث عن قرب أزهر من أجهزة المخابرات الباكستانية. بهذا المعنى فإن التعقد الآسيوي ينخرط في الصراع مع إيران على نحو سيتطلب موقف الصين وباكستان كما موقف الهند ودول أخرى.
ولا ريب أن قبول رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف الدعوة التي وجهتها السعودية لحضور القمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء زيارته المقبلة للسعودية سترفع من منسوب التوتر الإيراني الباكستاني. ذلك أن لبّ ذلك الاجتماع يبحث وسائل جماعية مشتركة أميركية عربية وإسلامية لمحاصرة إيران وتقويض نفوذها.
محمد القواص