فهذه المغوارة الشرِسة التي عهدناها فدائية على خطوط التماس وفي المناطق الملتهبة بالأزمات والمعارك والتطرّف والإرهاب، والتي لفتت نظر المشاهدين بمعاركها الإعلامية التي لم تترك فيها أيَّ خبر أسيراً، ها هي اليوم تطلّ بجرأتها المعتادة في برنامج «عم نحكي سياسي» (Women Do Politics) (الأربعاء 22:30 على شاشة LBCI) وهو الأوّل من نوعه على الساحة السياسية اللبنانية.
تستقبل إندراوس في الاستديو ضيفين في كلّ حلقة، الأول يكون مرشّحاً محتمَلاً للإنتخابات النيابية المقبلة ويمثّل أحد الأحزاب أو القوى السياسية في البلد، بينما يكون الضيف المقابل دائماً إمرأة ناشطة على الساحة اللبنانية ومتخصّصة في مجالٍ معيَّن.
تطرح مقدّمة البرنامج الأسئلة نفسها على ضيفيها، وتفتح الهواء أمام مناظرة تلفزيونية ليقدّم كلّ طرف وجهة نظره ويحاول إقناع المشاهدين (الناخبين المحتملين) بأجندته ومشروعه حتى ينتخبوه في الدورة المقبلة ويمنحونه فرصة تمثيل الشعب في مجلس النوّاب.
تفتح إندراوس في برنامجها الجديد شهيّتنا نحن المشاهدين على ديموقراطية لم نعتد طعمَها منذ ما قبل ولادة أهلنا، ديموقراطية معتمدة في الدول المتحضّرة وموضوعة في برّاد المستشفى اللبناني للأمراض السياسية المستعصية.
ولا يمكن تخيّل أيّ محدلة سياسية في لبنان تمنح بركتها لهكذا برنامج أو هكذا طرح، لأنّ الانتخابات عندنا لم يتمّ طرحُها أبداً وفق برامج إنمائية ومشاريع رؤيوية واضحة، بل مجرّد وقود يشتريه المال السياسي ليضخّه في خزانات محادل وجرافات التحالفات على إسفلت الطائفية والعصبية الحزبية.
وفيما تنتشر أسماءُ المرشّحين وتُفرَض بحكم الأمر الواقع على الناخبين، تجرّأت إندراوس على كسر أعراف الترشيح، مرّة بالغوص في أعماق المشاريع الإنمائية والحلول البديهية الحاضرة الغائبة والتي يجب أن تكون مطروحة قبل كل دورة إنتخابات، ومرّة بتسليط الضوء على دور المرأة في اللعبة السياسية، ومنحها مساحة المنبر كلّه لتكسر ذكورية السلطة وتفرض نفسها في قلب خط الدفاع داخل المباراة التي لا تُسجَّل فيها أهداف إلّا داخل مرمى المواطنين.
الملفت في البرنامج هو طرح الموضوعات التي تشكّل هاجساً لدى المواطنين لا السياسيين، مثل مشكلة الكهرباء والضمان الاجتماعي والإنماء والفساد وغيرها الكثير، لكن الملفت أكثر هو وقاحة المرشحين على حساب الأحزاب والقوى السياسية الذين يجاهرون بأيدولوجيات وأفكار معلوكة، ولا يقدّمون أيّ كلمة أو مصطلح يضيف شيئاً إلى ما نسمعه يومياً من السلطة المتسلّطة بالبلد... أما الرأي الأنثوي من جهة ثانية، فيقدّم بعض الأمل بالتغيير والكثير من الفرح بحكمة المرأة اللبنانية وعدم انصياعها، كما هو واضح، للأفكار المستهلَكة.
الشراسة والشجاعة اللتان عوّدتنا عليهما الزميلة ندى إندراوس عزيز في تقاريرها الميدانية مطلوبتان بشكل طارئ في البرنامج، لأن لا يتوقّع المشاهد منها أن تلعب دور المقدّمة أو المحاوِرة «اللبقة»، بل يريد منها أن تنتزع آراء ضيوفها وتخبطها بقوة على طاولة الحوار، لتقدّم ما لا يجرؤ الآخرون على تقديمه، ولتلعب الدور الذي اعتدنا أن نراها فيه.
فكلام الضيوف وحده يبقي البرنامج ضمن اللعبة التلفزيونية التي تربّت على كتف فالج السياسة، ولكنّ هذا البرنامج الجريء مطلوبٌ منه أن يعالج الفالج وأن لا يكتفي بالتفرّج عليه...
لم يعتد المشاهد اللبناني على معجزات التلفزيون ولا يتوقّعها أصلاً، لكنّ شرف محاولة التغيير وتقديم المختلف والأفضل يحافظ على دور الإعلام المرئي في صناعة الرأي العام والتأثير عليه، ومجرّد طرح فكرة المناظرات الديموقراطية في برنامج «عم نحكي سياسي» يذكّر الناس بتخلّف اللعبة السياسية اللبنانية ويشجّع المتحمّسين على تذوّق التغيير.
صرلنا سنين منطبّ الجرّة على تمّها ومش عم نقدر نطلّع هالدولة لأمها الحنون... بس لا شكّ أنّ العصفور الذي في يد ندى إندراوس عزيز أضمن من عشرات العصافير في برامج العلك.