على مقربة من البقعة التي اقيم عليها مركز البيال للمؤتمرات، وقف لبنانيون كثيرون ملوحين بالمناديل البيضاء لوداع أحبة أستقلوا سفن الهجرة المبحرة في اتجاه الغرب، ولم يعودوا إلا نادراً .. ولم يرسلوا الكثير من أبنائهم وأحفادهم الى المؤتمر الذي إنعقد في المكان نفسه في الايام الثلاثة الماضية، من أجل إغواء أولئك المهاجرين بالعودة الى الوطن الأم وإستعادة هويته، وجنسيته.
الطاقة الاغترابية التي جرى إستحضارها في المؤتمر لم تكن جارفة، والحنين المرتجى الى وطن الاجداد لم يكن قوياً الى درجة الظن في أن ثمة هجرة لبنانية مضادة تلوح في الأفق.. أو أن أرقام التحويلات المالية، وهي قدس أقداس لبنان وجوهر وجوده وسر بقائه، مرشحة للارتفاع وتعويض النقص الفادح الذي يسجل الان في الاموال الواردة من اللبنانيين العاملين في دول الخليج العربي.
لم يكن مؤتمراً بالمعنى الحرفي للكلمة، كان مهرجاناً خطابياً فنياً ثقافياً يعزز دور التيار العوني الذي بلغ أعلى مراتب السلطة التنفيذية، لكنه لم يثر ، حتى الآن على الاقل أي حساسيات طائفية(معلنة) تجاه ذلك المسعى الرسمي الذي تقوده وزارة الخارجية ومعها رئاسة الجمهورية، لإستعادة ما أمكن من المهاجرين المسيحيين خاصة الى أرض الوطن، وسجلات النفوس ولوائح الشطب الانتخابية.
لا يعني ذلك أن المسلمين صاروا أقل حساسية تجاه هذا الامر، أو أشد وعياً ونضجا. لعلهم ببساطة لا يبالون بتلك المحاولة اليائسة لتصحيح الخلل الطائفي العميق، ويعتبرون أن ما يمكنهم إنجازه في غرف النوم، في ليلة واحدة فقط، يمكن ان يعطل مفاعيل ذاك المؤتمر، وأي مؤتمر مشابه ينشد إسترداد بعض المهاجرين المسيحيين أو وقف موجات الهجرة المسيحية المتزايدة أو الحد منها. صراع الأرحام محسوم من وجهة نظر المسلمين، ولا حاجة الى التوتر ، ولا الى المزيد من التكاثر.
التسامح الاسلامي مع المؤتمر يحتمل أيضا الافتراض ان المسلمين لا يتوقون الى إستعادة مهاجريهم، بل الى الالتحاق بهم، او رفع معدل تحويلاتهم المالية. لا أحد يريد أياً من المهاجرين السنة والشيعة، لاسيما الذين لم تنفع بلدان المهجر في الحد من تعصبهم وتخلفهم، ولا في كبح فتنتهم التي يتردد صداها الان في كل مكان من العالم، وتشهد على صدامات ونزاعات مذهبية في مختلف القارات والبلدان، تمتد الى أحفاد المهاجرين اللبنانيين السنة والشيعة الذين يحفظون وقائع موقعة الجمل عن ظهر قلب.
في الوطن ما يكفي ويفيض من التوتر المذهبي والطائفي، الذي لم يساهم المؤتمر في خفضه بالطريقة المثلى: الشروع في بناء دولة مواطنة حقيقية مدنية( علمانية) تبقي المهاجرين الطائفيين والمذهبيين في بلدان المهجر، وتغري المتعلمين والمثقفين والمستفيدين من ثقافة الهجرة وتجربتها بالعودة او حتى بالزيارة. وهو ما ينطبق أيضاً على المسيحيين الذين لم يكترثوا للمؤتمر ، ولم يعتبروا أنه طريق خلاصهم من غلبة الكثرة الاسلامية، ولم يزحفوا الى مركز البيال ملوحين بالاعلام اللبنانية والرموز الدينية.
قانون إستعادة الجنسية اللبنانية الذي سرى مفعوله في المؤتمر، هو فضيحة وطنية بكل ما للكلمة من معنى. وكذلك الاشارة في كلمة صهر الرئيس ميشال عون، الوزير جبران باسيل، الى المكونات الجينية المشتركة بين اللبنانيين، مقيمين ومهاجرين، والمختلفة عن جينات النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين.. لكن التيار العوني لا يلام ولا يعاتب. فهو ليس أكثر طائفية أو مذهبية من بقية الاحزاب والحركات والتيارات المحلية. هو مثلها تماماً. يخوض معركة سياسية وانتخابية، بالاسلحة والادوات نفسها، المتعارف عليها. لعله يتجاوز الاخرين في إستخدامه مؤسسات الدولة ومحركات السلطة. لا بأس، إذا كان الغرض نصب ذلك الجسر الضروري فعلا مع المهاجرين، على الصعيدين الاجتماعي والثقافي خاصة.
لكن المشكلة أن أعداد الراغبين منهم في إستعادة الجنسية ما زالت متواضعة، بل فاضحة، ومحرجة للباقين في أحضان الوطن الذين كانوا يتوقعون أن تتجمع البواخر قبالة مراكز البيال، محملة بالمهاجرين العائدين.. ومجهزة لنقل الحالمين دوماً بالهجرة من هذه الارض الملعونة.