لا توحي الأجواء أن إتفاق آستانة سينفّذ. قد يكون وقف إطلاق النار مطلب كل القوى في سوريا وخارجها، إنما الصراع على مناطق النفوذ، وعلى المرحلة المقبلة، لايزال مستمرّاً بين الجميع. بيان وزارة الخارجية الأميركية كان واضحاً في رفض وجود إيران كضامن لتنفيذ هذا الإتفاق. لدى واشنطن شروط عديدة للسير في أي تسوية سورية، أولها إبعاد إيران على المناطق الأساسية وخصوصاً الحدودية منها، سواء أكان في الجنوب السوري، أم من الحدود العراقية، وحتى تقويض نفوذها على الحدود اللبنانية. صحيح أن واشنطن تدعم مناطق آمنة في سوريا، لكن ليس بالطريقة التي خرج بها آستانة.
سارعت إيران إلى التمسّك بالتوقيع على مندرجات آستانة لتضمن موقعها في اللعبة المستقبلية. وبموجب هذا التوقيع، فإن إعلان آستانة سيلحظ شرعية من الدول الموقعة على الإتفاق، للنفوذ الإيراني على منطقة جغرافية واسعة تمتد من وادي بردى إلى تلكلخ، أي يكون هذا النفوذ على طول الحدود اللبنانية السورية. هذا الإتفاق، يمثّل تقسيماً واضحاً لمناطق النفوذ، فبالإضافة إلى منطقة النفوذ الإيرانية على الحدود اللبنانية السورية، سيكون الساحل منطقة مستقرة خاضعة للنفوذ الروسي، وللأتراك المنطقة الشمالية، والأكراد في الحسكة، والأميركيون والبريطانيون في درعا. لكن هناك اعتراضات كثيرة على هذا الإتفاق، ومصيره سيكون معلّقاً على ثلاثة اجتماعات أساسية. الأول بين وزيري الخارجيتين الأميركي والروسي في آلاسكا، واللقاء بين الرئيسين الأميركي والتركي، وفيما بعد لقاء ترامب مع قادة دول الخليج. وتؤكد المصادر أن هذه الاجتماعات ستغيّر كثيراً من هذا الإتفاق إلى حدّ إلغائه.
هذا المنطق لن يمرّ، لأنه يتعارض مع خريطة الطريق الأميركية، والتي تتلخص بالقضاء على داعش، واستعادة المناطق التي سلّمها النظام إلى التنظيم، وتصبح بيد المعارضة السورية القريبة من واشنطن، من جهة الشرق للأكراد وقوات سوريا الديمقراطية، والجهة الجنوبية الشرقية في اتجاه الحدود العراقية السورية، ستكون تحت سيطرة قوات معارضة قريبة من واشنطن ولندن. والقنيطرة ستكون خاضعة لترتيب دولي تحت رعاية المعارضة، فيما المنطقة الشمالية ستكون على جدول الإتفاقات بين دونالد ترامب ورجب طيب اردوغان. وربما يجري الإتفاق بين الرجلين حول إمكانية إطلاق عملية درع العاصي، لمحاربة تنظيم القاعدة في إدلب، ولمشاركة الطيران التركي في معركة الرقة.
وأصرت أنقرة على مشاركة الفصائل المعارضة في اجتماع آستانة 4 بناء على إتفاق مع موسكو، ولكن رفض الفصائل وجود إيران كضامن لتنفيذ الإتفاق، كان رسالة تركية واضحة، فلم ترد أنقرة الإختلاف مع الروس أو إفشال المؤتمر، ولكنها أيضاً لا تريد القطع مع واشنطن. وهي تنتظر ما يمكن أن يتم التوافق عليه مستقبلاً. في الأجواء المتداولة، ثمة من يشير إلى إمكان بلورة تفاهم ثلاثي، أميركي- روسي- تركي، في وجه إيران في سوريا.
وهذا ما سينجم عنه، تقويض النفوذ الإيراني، وعدم الاعتراف بأي منطقة خاضعة لسيطرة طهران وحلفائها. وهذا ما سيبدأ من المنطقة الجنوبية، التي من المفترض أن تُطلق فيها عملية عسكرية جديدة شبيهة بعملية درع الفرات في الشمال، تحت إسم درع اليرموك وتشارك فيها قوات معارضة معتدلة، تعمل على مواجهة تنظيم داعش، وحزب الله في القنيطرة. وكذلك الأمر في درعا وإنطلاقاً منها نحو البادية، والحدود السورية العراقية، حيث قد يطلق على الفصائل إسم درع الشرقية لتتولى السيطرة الكاملة على الحدود الجنوبية مع العراق، ولمحاصرة تنظيم داعش من الجهة الجنوبي لدير الزور. وتشير الأجواء إلى تمسّك أميركي بوجوب محاصرة النفوذ الإيراني في دمشق ومحيطها وتقويضه عبر هجوم من الجهة الشرقية.
تعرف إيران وحزب الله أنهما مستهدفان من هذه العملية السياسية. وهذا الاستهداف قد يتطور إلى توسيع العمليات العسكرية ضد الإيرانيين وعناصر حزب الله في سوريا. لكن قوة إيران تكمن في الميدان، بالتالي فإن الرد سيكون عسكرياً، لكن كيف وأين ومتى؟ الجواب تحمله التطورات والأيام المقبلة. وماذا عن لبنان في ضوء هذه التطورات؟ هناك من يشير إلى أنه لن يكون بعيداً عنها، بالنسبة إلى الطرفين الدوليين.