يستعمل الخبث في قاموس اللغة بمعنى المكر والحيلة والخداع والخبيث كل شيء فاسد وباطل، وبذلك كان الحوار نقيض الخبث، فهو أي الحوار حسن الطبع، طيب القلب والخلق صادق لا يؤذي ولا يحقد والطيب من الحوار في بعض معانيه من تخلى عن الرذائل وتحلى بالفضائل.
كذلك أشار القرآن الكريم إلى ظاهرة الخبث في الجماعة الإسلامية الأولى واعتبر الامتحان ضرورة لتصفية الواقع المخلط لتمييز الشخصية الخبيثة من الشخصية الطيبة، فقال سبحانه: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ "، آل عمران 179.
وبغض النظر عن الحروب المفروضة علينا بالاحتلال إلا أن حروب الفتن التي ترتدي شعارات المذهبية والطائفية كانت من أبشع الأخطاء التي لم تحقق إطلاقاً قيمة التمييز بين الخبيث والطيب، وإذا كان التنوير الإسلامي حقيقة، فإن الظلامية في واقعنا الديني حقيقة مرة، غير أن تجديد الوعي بنهوضنا العربي لا يمكن أن يقوم بذهنية الاستنساخ الكربوني لعوامل الإنحطاط في الماضي والحاضر فلم نلتفت إلى أن تمسّك الذهنية الإسلامية بنقل الماضي ومحاكاته جعلها عاجزة أو قاصرة عن مواجهة تحديات الواقع، كما أن الذهنية العلمانية التي لجأت إلى نقل الفكر الغربي ومحاكاته دون دراسة ودون تحديد الجوهري والثانوي منه جعلها عاجزة هي الأخرى وفاشلة عن تأمين الحد الأدنى لرفاه أمتنا ووحدتها وتقدمها .
إقرأ أيضَا: الحوار وإشكالات الطائفية الحضارية
صحيح أن أشياء كثيرة قد انمحت من قسماتنا وملامحنا، من خصائصنا وخصوصيتنا بيد أن ذلك لا يسوّغ شعورنا بالإحباط وحتى لا تستثمر الاختلافات فيما بيننا لصالح مشروع المتوسطية الجديد يجب أن نحدد وظيفة الحوار وآفاقه من واقع حياتنا كما هي، ومن واقع الاعتراف بتطويع الاختلاف وترويضه لصالح أهدافنا العليا في الحياة، ولصالح عروبتنا، وأقول عروبة عند هذا المنعطف الحرج من مصيرنا لأن العروبة هي العنصر الأثقل في إسلامية حوارنا ووحدتنا، والسؤال: هل ينجح النهوض العربي في انجاز وحدته لتحرير القدس الشريف، فننتقل من وحدة الحبر على الورق، ووحدة الجامعة العربية، ووحدة منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى أرضية اختبار هذه الوحدة وتحدياتها في الموقف التاريخي من مستقبل القدس وأخطار تهويدها، هذا لو أردنا لجروح وحدتنا أن تعيش مهمومة بهموم جيلها القادم بآلاف الأسئلة والتحديات.
وما نرجوه في الراهن المعاصر هو أن يصبح الحوار الإسلامي - الإسلامي قاعدة صلبة للحوار المسيحي - الإسلامي وامتداده إلى الحوار الإنساني – الإنساني، وبهذا الوعي نكون قد ساهمنا فعلاً بتصحيح منهج الحوار وإعادة الفهم الموضوعي لحديث الفرقة الناجية بتفسير كينونتها ومضمونها بشهود الأمة وشهدائها الطيبين والصادقين بعيداً عن التفسير المذهبي والطائفي.
ولا يخفى على إخواننا وأبنائنا في المؤسسات والحركات الإسلامية أن الإسلام لا يمنع المسلم من إثبات وجوده طالما استند هذا الإثبات على الاعتراف بحق الآخر في الوجود وحقه في الإختلاف.
إقرأ أيضًا: الحوار المأزوم بالنفاق الديني
لكن أزمة المقبول والمرفوض من الخلاف ستظل عالقة في أزمة التنابز بالخبث ونصوص القطع والكراهية فيما نراه من جدال عقيم ينطلق في كثير من الأحيان بوهم احتكار الحقيقة المطلقة ويحتمي بشرعية التخطئة والتصويب بغطاء من الحديث النبوي عن الفرقة الناجية الملتبسة بحديث " اختلاف أمتي رحمة " إلا أن المفارقة المؤلمة ومع غياب الحديث النبوي الآخر: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " ترتكب المؤتمرات الإسلامية والحوارات الإسلامية ورطة الخلط بين مفهوم الاختلاف كمصدر للثراء الفكري وبين مفهوم الخلاف كمصدر للتباغض والقطيعة المعرفية، وتدمير الذات والهوية .
وبكلمة .. ألم نرتكب في الماضي خطأً فادحاً بتقسيم وجودنا السياسي إلى تقدمي ورجعي، ثم اتضح لنا بعد سلسلة فجائعية من الهزائم أن هذا التقسيم لا معنى له على الإطلاق، ثم ارتكبنا خطأً مماثلاً بتصنيف وجودنا الفكري والثقافي إلى ديني وعلماني.
وفي ظلِّ الحوار الإسلامي – الإسلامي ترانا نرتكب الأخطاء ذاتها بتجاوز وظيفة هذا الحوار من حوار طيب نريد له أن يبني أمتنا بالكلمة الطيبة إلى حوار خبيث يسعى إلى تقسيم هويتنا وثقافتنا الواحدة بالكلمة الخبيثة وخبيثات الخداع والفتن وتوظيفات الدين بالسياسة.