تعيش إسبانيا بين الشرق والغرب، كما كانت دائماً، على علاقة وثيقة بكليهما، يفصلها عن المغرب مضيق وعن أوروبا سلسلة جبلية. شهدت تاريخاً عربياً وأمازيغياً إسلامياً مشتركاً منذ بداية القرن الثامن الميلادي إلى نهاية القرن الخامس عشر. وحتى بعد ذلك، حافظ المورسكيون، أي المسلمون الذين اعتنقوا الدين المسيحي بعد نهاية الحكم الإسلامي، على ثقافتهم. واستمر الأمر كذلك إلى أن نُفي هؤلاء من شبه الجزيرة الإيبيرية في أوائل القرن السابع عشر. وعلى ذلك فقد بقيت الحضارة العربية متغلغلة إلى يومنا هذا في الثقافة الإسبانية.
إسبانيا تعبر عن علاقتها بماضيها الأندلسي بطرق شتّى، البعض ينْظر إلى الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية على أنه "شائبة" في تكوين الشخصية الوطنية، وآخرون يعتبرونه جزءاً أساسياً منها، ولربما في أغلب الأحيان هذه المواقف تصدر عن فكر إيديلوجي، سياسي أو ديني، ولا يتمثل في الحياة اليومية لعامة الناس وتعايشهم مع جيرانهم بغض النظر عن أصلهم. أياً كان الأمر، فإن هذه المواقف تجاه الماضي تتسرب إلى العادات والتقاليد والاحتفالات، لتبرز بذلك واقعيتها في التاريخ المعاصر.
إعادة تمثيل التاريخ
من ضمن الاحتفالات الإسبانية الشعبية تقوم بعض المناطق منذ قرون باحتفال يسمى (fiesta de moros y cristianos)، أي احتفال العرب والمسيحيين، وهو موجود أيضاً في أمريكا اللاتينية. في إسبانيا تنتشر هذه الاحتفالات في منطقة أراغون الشمالية، حيث سرقسطة، وفي منطقة أندلوسيّا الجنوبية، خاصةً غرناطة والمريّا وخاين (جيّانة العرب)، والمناطق المشرفة على البحر الأبيض المتوسط، والأكثر شهرة بها من هذه الأخيرة هي منطقة بلنسية في الجنوب الشرقي. وتكون في المدن الصغيرة والقرى.
والاحتفال عبارة عن عدة مجموعات وجمعيات تتنكر بأجمل الثياب وتكوِّن فريقين، أحدهما عربي والآخر مسيحي، يمثلان التنافس بينهما على موقع أو قلعة تاريخية.
في مدينة ألكوي، مثلاً، التابعة لمحافظة أليكانتي في منطقة بلنسية، يقوم احتفال من هذا النوع يوم الثالث والعشرين من شهر نيسان (أبريل)، الموافق لاحتفالهم الديني بالقديس جرجس. فينقسم المشاركون إلى جيشين، جيش الصليب وجيش الهلال، ويعرضون ملابسهم في الشوارع وسط جمهور حاشد، وصل هذه السنة إلى أحد عشر ألف زائر وزائرة، بالإضافة إلى سكان المدينة الذين يشرفون من النوافذ والبلكونات لمشاهدة الأحداث.
سبب الاحتفال هو واقعة تاريخية من القرن الثالث عشر الميلادي كانت بين أحد أعلام المُدَجَّن، أي المسلمين الذين عاشوا تحت حكم المسيحين (ويسمى mudéjar في اللغة الإسبانية)، عُرِف بالأزرق، وملك أراغون حينذاك، وهو خايمي الأول. قاد هذا الأزرق عدة ثورات للمدجّنين ضد الملك، بدعم من مملكة غرناطة تحت حكم بني نصر ومملكة قشتالة المسيحية التي كان على عرشها ألفونس العاشر الملقب بالحكيم.
وقد ورد في التاريخ أن خايمي الأول لم يتمكن من ثوّاره فكان قمعهم على يد من خلفه، ويُقال أيضاً أن القديس جرجس ظهر على متن جواده وهزم المسلمين بسهامه.
وعلى كل حال فإنه على عكس، ما يبديه هذا الاحتفال من الاصطدام الثقافي والمواجهة العنيفة بين الفريقين، وذلك لكونها واقعة عسكرية مؤلمة من التاريخ، في الواقع يمثل مساحة للتفاعل والحوار مع الآخر، فتلبس النساء الديباج وترقصن الرقص الشرقي، أو يضع الرجال على رؤوسهم العمائم ويحملون السيوف العربية. ويستمتع الناس بالبهلوانية والمواجهات التمثيلية بين الفرسان العرب والمسيحيين.
والجو يذكرني بالمسلسلات التاريخية السورية، غير أنه أكثر ما يشبه المسرح الشعبي لمباشرته الجمهور. وهو جمهور يتسم بالطابع العائلي، ينتقل الناس مع أطفالهم لقضاء يوم ترفيهيّ ومشاهدة الاحتفال، كما يفعلونه حين تقوم الأسواق المعروفة بـ Feria medieval، أي سوق العصور الوسطى، حيث يباع الأكل المنزلي والمحلي والبضائع الحرفية وما إلى ذلك.
حرق المخطوطات العربية في غرناطة
نوع آخر من الاحتفالات، هو الذي بدأته بلدية غرناطة منذ عام ٢٠٠٠ حين قررت إحياء ذكرى حرق المخطوطات العربية الذي أمر به الكادينال ثيسنيروس بعد سقوط المدينة على يد الملكان الكاثوليكيان (إيزابيل الأولى ملكة قشتالة وفرناندو الثاني ملك أراغون). يعبر الغرناطيون من خلال هذا الاحتفال عن إجلالهم للكتب ويعتبرون المناسبة فرصة للتفكّر بهذه الحادثة، لكي لا تعاد أبداً في أي مكان كان جريمة كهذه بحق الحضارة أياً كانت ظروفها السياسية.
وأحد الشعارات التي اختاروها لهذه المناسبة هو "كي لا تُحْرق الذاكرة"، باعتبارها ذاكرة الحضارة الإنسانية بأكملها، التي لا يحق لأحد سلبها تاركاً إيّانا في الظلام. وكلنا نعرف كثيراً من المكتبات التاريخية التي تم تحويلها إلى رماد أو محو ما كتب عليها في الأنهار بسبب الحرب، وهذا شبيه بتدمير المتاحف اليوم.
كل سنة يقوم الاحتفال في نفس الساحة التي أُحرقت فيها المخطوطات، وهي ساحة تقع في وسط المدينة اسمها Bib Rambla، أي باب الرملة. ويشترك في هذا اليوم كثير من الطلاب والكُتّاب وأساتذة الجامعة، وهؤلاء الأخيرين يأتون خاصة من قسم الدراسات العربية والإسلامية، لإلقاء الخُطب وقراءة الشعر باللغتين العربية والإسبانية ويُعزف العود وما إلى ذلك. فيجتمع الناس حول المشتركين ليستوعبوا درساً من ماضينا لا يجب أن يتكرر في التاريخ.
بعد حريق شب في كلية الحقوق منذ عامين، نشرت إحدى الجرائد المحلية عنواناً معبرّاً، كان: "سُترت غرناطة بدخان ونسيان"، وهو مقتطف لما قاله الكاردينال عندما نفذ أمر حرق الكتب في تلك الساحة قبل خمسة قرون. ومع أن ما حلّ بجامعة غرناطة في العصر المعاصر لا يقارَن بما حدث حينذاك، إلا أنها فرصة لشجب هذه الحادثة المفجعة، حيث أمرت السلطة بإخراج كل ما هو مكتوب بالعربية وحرقها، فضاع ما يناهز الخمسة آلاف مجلد، ومنهم من يقول أكثر أو أقل، أكثرهم من المدرسة النصرية (والتي تعرف أيضاً باليوسفية، نسبة لمؤسسها، الملك النصري أبو الحجاج يوسف الأول سنة 1349). ويجدر الإشارة هنا إلى أن آثار هذه المدرسة مازالت باقية إلى يومنا هذا ضمن بناء تابع لمدينة غرناطة، حيث تعقد المؤتمرات وتلقى المحاضرات وتعرض الأفلام.
وهذا النقاش والصراع الذي يدور في إسبانيا اليوم حول الهوية أو الهويات الوطنية، والذي يمثل رغبة كل شعب باستعادة ذاكرته بأكمل قدر ممكن وتملك حرية التفكر بها، يمتد إلى أحداث تاريخية أخرى أقرب من الحاضر، ألا وهي ذاكرة الحرب الأهلية التي قامت في البلاد في بداية القرن الماضي، والتي انتهت بنظام فرانكو الذي حكم البلاد لأربعين عاماً.
وما زال الناس هنا يبحثون عن ماضيهم، ينبشون المقابر الجماعية بحثاً عن قتلاهم، يستحكمون بقضاة من أمريكا اللاتينية للمدافعة عن قضاياهم، يسجلون مقابلات بشهادات من عاش تلك الفترة وما زال حياً يتذكّر، وهم أقلية اليوم. فتلك كانت ذاكرة حرقتها نار البغض الإنساني وهذه ذاكرة يحرقها الزمن.