كيف نقدم حضارتنا الإسلامية إلى العالم ؟ وعلى أيّة صورة نقدمها في الواقع الراهن دون رتوش بسلبياتها وإيجابياتها، بأزماتها وتراجعاتها، بإبداعاتها وقيمها؟
في البدء لا بدّ من مكاشفة الذات ومعرفة جوانب قدراتها الحقيقية وإمكاناتها الروحية والفكرية والبشرية والمادية وإدراك صورة هذه الذات عند الحضارات الأخرى، ولا بدّ بعد ذلك وبمقتضى التربية القرآنية من تقديم فهم عقلي لعالمنا المعاصر، كما يتطلب هذا التقديم الإجابة الواضحة عمّا يسمى تزويراً للحقيقة بالتهديد الإسلامي للحضارة الغربية وتوضيح الرؤى لما يطلق عليه الغزو الثقافي والقيمي الغربي لمجتمعات الحضارة الإسلامية، وما هي حدود هذه الأخطار التي تدق لاستثارتها طبول العالم الغربي وطبول العالم الإسلامي في آن؟ وكيف يمكن إعادة صياغة صورة الآخر في إطار موضوعي مشفوع بحس من التسامح الثقافي والديني؟ إنّ القرآن لا يوافق على النظرية الشائعة بأنّ تحقيق السلام يمر عبر الحرب والتدمير، بل يقترح نظريته الإنسانية بأنّ تحقيق العدالة والحوار يكون بعيداً عن الفكر المنطلق من «هيروشيما» أو المنطلق من بناء المستوطنات على مسامات جلودنا العارية، أو المنطلق من تفجير السيارات وقتل الأبرياء والأطفال وتهديم الأوطان.
إقرأ أيضًا: دعوة إلى تأصيل الحوار الديني
نعم إنّ القرآن الكريم إذ يدعو إلى حوار الحضارات وفق قواعد الحوار الهادف الجاد المسؤول، فإنّه يقف وبصرامة شديدة ضد الطائفية الحضارية ويحملنا جميعاً مسؤولية معالجة الخلل المستشري في القيم والضمائر والعلاقات لإنهاء عصر نزعات السيطرة والتفوق والهيمنة والإستبداد ونفي الآخر وفتح عصر جديد هو عصر الإحتكام إلى العقل لينعم الجميع في صفاء نوره بمعنى الحياة الطيبة على عين الله ورضاه، حيث يمكن إعادة صياغة الألفية الثالثة للميلاد صياغة إنقاذية على مدى ربيع المشتركات الإنسانية التي تتحدى بتفاهمها المشترك على مبدأ التنوع والتعددية الحضارية .. " مقولة صدام الحضارات ".
إن أولى إشكالات الحوار الحضاري هي تلك المتصلة باختلال التوازن بين طرفي الحوار ولا سيما في مجال وعي المصالح المشتركة ووعي القيم المشتركة، ولا يسع من يطيل النظر في تاريخ الحضارة الإنسانية إلاّ أن يصاب بالهلع والرّوع، وهو يتصفح سجلاتها الملىء بالحروب المدمرة والفواجع الأليمة والمؤامرات المتبادلة والحماقات التي انطوى عليها تاريخ هذه الحضارة التي لم تسلم في عصر من عصورها من ذهنية الصراع السياسي.
وأكاد أزعم أنّ فكرة حوار الحضارات مشروطة بإنتصار حضارتنا الإنسانية على بواعث الصراع بين الأمم والشعوب والأديان وهو شرط لم يقف على بلورته آباء الغرب ولا آباء العروبة أيام حضارة الأندلس الكبرى.. وبالرغم من أن الإحتكاك الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية قد تمّ في مناخات الحروب، إلا أنّ الغرب استطاع أن يقتبس من معالم الحضارة الإسلامية الشيء الكثير، فما بالنا لو أنّ هذا الإتصال بينهما قد تمّ في مناخات السلم والحوار .. إذن لكان له الأثر العميق الواضح على مستقبل العقل الحضاري بجميع أبعاده، ولفتح الغرب عينيه على كنوز روحية وأخلاقية من تراثنا الإسلامي لم يلتفت إليها بسبب معارك الكراهية والعداء المضطرمة آنذاك من الشرق والغرب. فكيف نؤسس اليوم لإعادة الثقة التي توحد معنى الإنسان وتلغى من شخصيته داء التعنصر أو العنصرية؟ وسوف يظل سلام الحضارة محفوفاً بالمخاطر حتى تتقارب عقولها وقلوبها من معنى الإنسانية الضائع المفقود.. ولا يخفى أنّ البحث عن هذا المعنى الإنساني واستحضاره سيوقظ فينا جميعاً حوافز الحوار الحضاري كمطلب كان يجب أن نستفيق على ضرورته بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، إلاّ أنّ مفهوم أمن الحضارة بعد الحربين الكونيتين تم تزويره ليصبح في أحيانٍ كثيرة مفهوماً نقيضاً للأمن نفسه فيما شهدناه في القرن الماضي من ظاهرة القمع والتجسس والحرب والظلم والعدوان التي استشرت في أنحاء الكرة الأرضية تحت شعار - الأمن المزعوم - وبذلك خرجت الحضارة الإنسانية عن معناها وبتنا نتحفظ في استخدام هذا المصطلح الذي نشأ في ظروف عدوانية لا تمتّ بصلة إلى فكر الإنسان وعقله وثقافته فبات الإنسان في ظل ما يسمى تزويراً بالحضارة الحديثة محروماً من أبسط شروط الحرية والعدالة والمساواة.
إقرأ أيضًا: الحوار المأزوم بالنفاق الديني
من هنا يبدو لي أنّ إحدى مهمات المؤرخ لحضارة ما هي إعادة كشف واستكشاف الأسباب الموضوعية لسقوطها وعلى رأسها نزعتي الإستبداد واللاعقل، فالحضارة التي لا يتسع صدرها لفكر الآخر المخالف ستحرم نفسها من فرص الإبداع والتجديد والتنوع ولن تحظى بنعمة الحوار الإنساني المنشود.