بعد انتخاب حسن روحاني عرفت إيران بعض التغييرات التجميلية مثل تخفيف الرقابة على الحياة الثقافية وتوقيع الاتفاق النووي مع القوى الغربية، لكن خلف الكواليس بقي التغيير محدودا والفساد مستفحلا والإصلاح يحدد مفهومه المرشد الأعلى، فيما انتهاكات حقوق الإنسان تصنّف في خانة الأمن الداخلي. والأبرز من ذلك أن معدل الإعدام في إيران روحاني “المعتدل والإصلاحي” تجاوز المعدلات المسجلة خلال ولايات رؤساء محافظين. ولا يزال قادة الحركة الخضراء والعديد من الناشطين الإصلاحيين الحقيقيين يقبعون في السجون، وكل المؤشّرات الراهنة توحي بأن الأمر سيبقى على حاله سواء تمت إعادة انتخاب حسن روحاني لولاية ثانية في انتخابات 19 مايو 2017 أو وصل رئيس محسوب على المحافظين حسب ما تقتضيه الأحداث الخارجية
 
لا يختلف مشهد الانتخابات الرئاسية في إيران عن ذلك الذي جرى وسيجري في بلدان أوروبا البعيدة. فرصد المزاج الشعبي الإيراني سيرسم ملامح السلطة المقبلة في إيران لجهة تحديد مستقبل نظام ولاية الفقيه في البلاد، تماما كما سيحدد المزاج الشعبي في فرنسا حاليا أو بريطانيا وألمانيا لاحقا طبيعة النظام السياسي الأوروبي برمته.
 
لكن ما يختلف هو أن الجدل الراهن داخل إيران يجترّ نفسه ويكاد يكون مملاّ لا يتجاوز السقوف المرسومة بعناية، فيما تكشف الانتخابات الفرنسية وقبلها الأميركية وقبل ذلك استفتاء البريكست البريطاني، عن انقلاب في القيم والحجج وقضايا النقاش على نحو أحدث مما سيحدث تحولات لافتة داخل كل المنظومة الغربية.
 
والحقيقة أن من يزور إيران سيكتشف ذلك البون الشاسع بين ما لا نعرفه عن النقاش المجتمعي الداخلي وذلك الذي تخرج به التقارير التي تغطي الجدل الانتخابي الحالي البليد. ثم إن الثنائية التقليدية بين محافظين وإصلاحيين، ورغم ضراوة تنافسها وخصومتها، لا سيما في موسم الانتخابات، تحجب حقيقة أنها متواطئة داخل نظام الجمهورية الإسلامية الذي يحدد الملعب واللاعبين وقواعد اللعب، بما يقصي أي حيوية حقيقية ينتجها التطور الطبيعي للمجتمعات.
 
ولئن شكّلت الحركة الخضراء عام 2009 ضد نتائج الانتخابات التي أعادت محمود أحمدي نجاد رئيسا الأعراض الأولى لمحاولة تمرد المجتمع على نظامه السياسي، فإن سهولة وأد هذا التحرك كشفت جلافة السلطة في الإجهاز على ما اعتُبر خروجا عن الإجماع.
 
ويكاد المراقب يستنتج أن الإيرانيين كما غير الإيرانيين يتابعون الانتخابات الراهنة بصفتها حدثا يجري عند الآخرين. وإذا كان الخارج يتأمّل الحدث بصفته شأنا إيرانيا داخليا، فإن نقاش الأمر مع المواطنين الإيرانيين يكشف أنهم، ورغم انخراطهم فيه بصفتهم ناخبين، يعتبرونه جدلا داخل هذا الداخل يرتبط بمنظومة إنتاج السلطة داخل السلطة نفسها دون أي اختراق يرد من خارج أسوارها.
وإذا ما كانت البلدان المحيطة بإيران معنية بمآلات هذه الانتخابات دون التعويل عليها كثيرا، وإذا ما كان الأميركيون والأوروبيون (والروس) يتأملونها ليحددوا الوجهات التي ستقارب بها طهران العلاقة مع العالم، فإنه سيصعب في المضمون استنتاج أي فروقات كبرى في مطالعات المحافظين والإصلاحيين في شأن ما تريده إيران من هذا العالم.
 
لا يعير المراقبون للشأن الإيراني الكثير من الاهتمام لمواقف المحافظين بزعامة المرشد علي خامنئي. فخطاب التصلب، حتى في عزّ المفاوضات بين طهران ودول مجموعة 5+1، بقي عالي النبرة لدواعي الاستهلاك المحلي والإقليمي. فزعامة إيران لـ”تيار المقاومة” بامتداداته الدولية المزعومة التي قد تلامس دولا مثل فنزويلا وبوليفيا وكوبا مثلا، يتطلب شططا أبجديا شعبويا لا يمت بصلة إلى المداولات التقنية الدبلوماسية الواقعية التي أفضت في النهاية إلى وقف إيران لأي برنامج يؤدي إلى امتلاك السلاح النووي.
 
وإذا ما عوّلت الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما على هذا الاتفاق لإحداث صدمة داخل إيران لتقويض التطرف وتعزيز الاعتدال، فإن واشنطن كما عواصم الغرب الأخرى أظهرت سذاجة في فهم المنظومتين السياسية والأيديولوجية اللتين يعمل النظام الإيراني وفق شروطهما.
 
 
بعيدا عن المحرمات
 
أظهرت المناظرة التلفزيونية بين المرشحين، يوم الجمعة الماضي، وهي الأولى من ثلاث مناظرات بين المرشحين الستة، كمّ المسائل والقضايا التي تؤرق إيران والإيرانيين. بيد أن المهاجمين والمدافعين استخدموا حججا تقنية وتبادلوا الاتهامات اللاذعة دون أن يلامس الجدل بينهم المحرّمات الكبرى التي يفرضها الولي الفقيه في مقاربة السياسات الخارجية لإيران.
والملفت في هذه المناظرة أن المراقب يكتشف عادية ظواهر الفساد وشفافية الحديث عنها داخل دولة يفترض أنها جمهورية إسلامية تعمل بأحكام الشريعة وأخلاق الدين وأن القوى السياسية التي تحق لها ممارسة السياسة وارتكاب ذلك الفساد مرخّص لها من مؤسسات دستورية لا تحيد عن المعايير التي تفرضها ولاية الفقيه. وأن حديث الفساد والمحسوبية وفضيحة العقارات الشاغرة والمخصصة للمقربين من هذا وذاك يتم تناولهما على شاشات التلفزيون وينتهي تداولهما بانتهاء العرض التلفزيوني دون أي تبعات ولا ملاحقات.
 
يمتلك المرشحون المحافظون، خصوصا إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قاليباف، الحجج تلو الحجج لاتهام الرئيس الإيراني، المصنّف معتدلا والمحسوب على الجناح الإصلاحي حسن روحاني، بفشله في الوفاء بوعوده التي أطلقها في حملة انتخابات عام 2013.
 
يعتبر المحافظون أن رفع مستوى الإنجازات الاقتصادية هو مهمة روحاني وحكومته، وأن عجزه عن تحسين مستوى معيشة الإيرانيين على الرغم من إبرام إيران للاتفاق النووي، يمثل إخفاقا يغمز من قناة نجاعة القبول بمبدأ المفاوضات ومبدأ الاتفاق.
 
غير أن رد حسن روحاني كما رد نائبه إسحاق جيهانغيري، المرشح أيضا عن تيار الإصلاحيين رغم ضراوته لا سيما بالنسبة إلى الأخير، ينحصر في كيل اتهامات بيتية مضادة لا تتناول مسؤولية النظام السياسي الإيراني في عزل البلد عن جيرانه كما عن النظام الدولي، وهي عزلة تقف دون لبس وراء أزمة الأداء الاقتصادي للبلاد.
 
بعد 38 عاما على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران يتحدث المرشح المحافظ محمد قاليباف عن أن 11 مليونا من الإيرانيين يعيشون في بيوت الصفيح، فينبري المرشح المحافظ الآخر إبراهيم رئيسي ليصحّح الرقم ويؤكد أنه 16 مليونا.
 
يكتشف المراقب الأجنبي هذه الفضيحة المأساوية لنظام صدّع رؤوس العالم بحديثه عن الدفاع عن المحرومين والمستضعفين.
 
 
تواطؤ مع الولي الفقيه
 
بعد كل هذه العقود التي تلت الإطاحة بنظام الشاه، يتعايش الإيرانيون هذه الأيام ببلادة مذهلة مع نقاش حول الفساد وبيوت الصفيح. وفيما يسهل على أي مواطن التساؤل عن الحكمة من إنفاق ثروات إيران لتمويل أذرع الولي الفقيه في اليمن والعراق وسوريا ولبنان ومناطق بعيدة أخرى عن إيران، فإن الأمر يصعب على روحاني ونائبه جيهانغيري، بحيث يظهر أن أمر ذلك لا يخضع للنقاش وأن تواطؤا كاملا يربط الرئاسة بالولي الفقيه فيما يمدّد من نفوذ إيران في الخارج ومن مساحة مدن الصفيح في الداخل.
 
ورغم أن النقاش تناول مسؤولية الدولة (ورأس الدولة) عن الهجمات التي تعرضت لها الممثليات الدبلوماسية السعودية في إيران، ورغم أن هذا الجدل سلّط المجهر على تعارض حكومة روحاني مع دولة الولي الفقيه، ورغم أن السجال في هذا المجال يعكس خلافا داخليا بنيويا في مقاربة علاقات طهران الخارجية، خصوصا مع الرياض، إلا أنه لم يصدر عن المرشحيْن الإصلاحيين ولا عن الرئيس روحاني وحكومته قبل ذلك ما يمثل وجهة نظر مخالفة لرؤى السيد علي خامنئي ومؤسسات الحرس الثوري، لا بل أمعن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف في كيل الانتقادات للرياض وحلفائها وانتقاد موقف الخليج وحلفائه في شأن اليمن وملفات المنطقة الأخرى، كما سعوا عبثا إلى اختراق الإجماع الخليجي عبر تسلل ظريفي نحو عمان أو الكويت أو قطر، على نحو يشي بمدى تسخير الحكومة، المفترض أنها إصلاحية، مواهبها في خدمة الخط المحافظ المتشدد للدولة (ورأس الدولة).
بالمحصلة تكشف تجربة الإصلاحيين في إيران، حتى في شخص محمد خاتمي سابقا، هزال وظيفة الإصلاحيين وزيفها. تثبت تلك التجارب، وآخرها في رئاسة روحاني أن أمر البلاد، وفق دستورها، في يد ولي الأمر الحقيقي، الخميني سابقا وخامنئي حاليا وأي مرشد بعده، وأنه من الأفضل للعالم أن يكون الرئيس المقبل محافظا بحيث يتم التعامل مع الوجه الحقيقي لإيران دون قفازات ناعمة تمثلها الوجوه الإصلاحية المزعومة.
 
وعلى أي حال فإن النظام السياسي يعرف من هم الإصلاحيون الحقيقيون فيودعهم السجون ويفرض عليهم الإقامة الجبرية ويترك لأشباههم مناصب الرئاسة ووزارتها.
 
لا يبدو من أعراض المناظرة التلفزيونية الأولى أن الحملة الانتخابية تشي بما يقطع ملل المراقبين. يظهر خواء النقاش امتهان النظام السياسي لسياسة النعامة التي لا تريد أن تقر بأنواء العالم، لكنها تظهر أيضا عقما سياسيا عاجزا عن اجتراح أفكار خلاقة. وتكشف عن شلل يمنع تجديد الطبقة السياسية وتنقية دمائها.
 
في ذلك ما يشي بأن النظام السياسي برمته بات متقادما، وأن قصوره عن تحمّل توسيع هامش التيارات والقبول باختلافها يقود إلى التحصّن خلف متاريس أيديولوجية لا يبدو أنها ستكون وحدها قادرة على الصمود أمام الطوق الإقليمي الدولي الذي يطبق وسيزداد إطباقا يوما بعد آخر.
 
لكنّ تأملا أكثر عمقا يقود إلى استنتاج أن الإيرانيين حكّاما ومحكومين يشعرون بأن شيئا ما يُعد في المنطقة قد يقلب وضع إيران كله، بحيث تبدو تلك الانتخابات تفصيلا تافها وجلبة لا صدى لها.
 
 
 
 
محمد قواص