بعد أيام معدودة يزور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس واشنطن، حيث سيلتقي للمرّة الأولى الرئيسَ الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض.تشخَص أنظار المراقبين إلى هذا اللقاء الذي يُفترض أن يشكّل بداية مرحلة جديدة حافلة بالضغوط وصولاً إلى تحقيق مشروع التسوية الإسرائيلية - الفلسطينية كما تأمل إدارة ترامب.
ذلك أنّ رجال هذه الإدارة يدركون جيّداً المشاكلَ الكثيرة التي باتت تُحاصر البيت الأبيض، ما يَفرض عليهم تحقيقَ إنجازٍ ما، لا يبدو متوافراً سوى في الشرق الأوسط، وتحديداً حول الملف الفلسطيني - الإسرائيلي.
وخلال الأيام المئة التي أمضاها ترامب في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، أيقنَ الرئيس المثير للجدل أنّ «روما من فوق غيرُ روما من تحت»، وأنّ الوعود الورديّة التي أطلقَها، والسياسة «الحالمة» التي رسَمها، لم تكن قابلة للتحقيق في معظمها. وأحصَت «النيويورك تايمز» مثلاً تحقيقَ ترامب سبعة وعود فقط من أصل 38 وعداً تعهَّد بتحقيقها فور دخوله البيتَ الأبيض، ومع ذلك فإنّ السياج الحدودي مع المكسيك والذي باشرَ ببنائه، كما وعد، أفرَد ميزانيته من الخزينة الأميركية وليس من المكسيك كما قال.
مشروع الرعاية الصحّية «أوباما كير» فشلَ في إيجاد بديل عنه، وقرارُه بمنعِ سفر رعايا دول إسلامية إلى الولايات المتحدة أسقَطه القضاء الأميركي، ألخ...
على المستوى الدولي، بدا ترامب محاصَراً أيضاً. صداقات بلاده مع أوروبا أصبحت موضع اهتزاز، وحتى الأزمة الأخطر التي تُطاول الأمنَ الأميركي والمتعلقة بصواريخ كوريا الشمالية، بدا عاجزاً عن إيجاد علاجٍ لها ولم ينفعه تحريك حاملات طائراته في إخافة حاكم بيونغ يانغ. وأيقن أنّ القوّة تأتي من اختراع الحلول السياسية وليس بالتهويل العسكري الذي له شروطه ليصبحَ منتجاً.
وبعد مئة يوم، باشرَ ترامب باستدارةٍ في سياسته، ينتقل معها من الشعبوية إلى الواقعية، وهو ما عبَّر عنه دينيس روس بقوله إنّ ترامب يعود إلى أصول السياسة الأميركية ومؤسساتها.
وهذه العودة فرَضت رحيلَ كثيرين من الإدارة، أبرزُهم مايكل فلين مستشار الأمن القومي السابق، وستيف بانون المستشار الذي كان يُعرف بأنّه رئيس الرئيس نظراً لنفوذه وتأثيره بلا حدود.
هذه الإخفاقات لترامب وانعكاسُها انخفاضاً لشعبيته التي لم يسبقه إليها أيّ رئيس أميركي، تُلزمه إنجازَ خطوتين سريعتين:
الأولى تحريك العجَلة الاقتصادية سريعاً والعملُ على ضخّ الأموال فيها، ومِن هنا ربّما كلام ترامب الذي يُقارب الوقاحة عبر الطلبِ من كوريا الجنوبية دفعَ «فاتورة الحماية» البالغة مليارَ دولار والقولُ للسعودية إنّها لا تعامِل بلاده بعدالة، وهو يريد ثمناً عادلاً لمهمّة الدفاع عنها، كما قال، فيما يُشبه فرضَ الخوّة المالية لتحسين اقتصاد بلاده. وفي المقابل عملَ على خفضِ الضرائب لتحسين وضعِ إدارته داخلياً.
أمّا الخطوة الثانية، فهي تحقيق انتصار خارجي. بالتأكيد هو يركّز على «بريق» إلحاقِ الهزيمة بـ«داعش»، لكنّ أمام تحقيق هذا الهدف الكثير من الجهد السياسي والترتيبات والتسويات، إضافةً إلى ارتباطه بترتيب خريطة النفوذ الجديدة داخل سوريا، والترابطِ ما بين هذه الورشة المعقّدة والملف الإسرائيلي - الفلسطيني، وهنا بيت القصيد.
فقد اختار ترامب أن يبدأ أولى جولاته الخارجية، في نهاية شهر أيار، من إسرائيل. البعض طرَح عليه أن تكون إيطاليا المحطة الأولى، لكنّه متمسّك بالتركيز على إسرائيل علّه يُحقّق ما عجزَ عنه أسلافُه، ويوظّفه في سِجلّ إنجازاته الفارغ حتى الآن.
وقد حضَّر فريق عمله جيّداً لمشروع التسوية الذي ينوي السيرَ به من خلال لقائه الرئيسَ المصري والملكَ الأردني ووليَّ وليّ العهد السعودي، وهو الذي أوكلَ إلى وزير دفاعه جيمس ماتيس، الرجلِ الأقوى في الإدارة، تحضيرَ الخطط العسكرية التي ترتكز على قوّة عسكرية ضاربة قوامُها السعودية ومصر والأردن، وتعمل بالتنسيق الكامل مع واشنطن.
وقبل زيارته إلى إسرائيل، والتي ستَليها زيارة للسعودية، أنجَزت واشنطن الترتيبات المطلوبة للشروع لاحقاً في إقامة منطقة عازلة في موازاة الحدود مع إسرائيل، وهو ما يشكّل مطلباً إسرائيلياً ملِحّاً ومزمِناً إضافةً إلى إضعاف الحضور الإيراني في سوريا وإبعاد «حزب الله» لقطعِ التواصل البرّي بين إيران وجنوب لبنان.
وأرادت إسرائيل توجيه رسالة نارية بأنّها معنيّة مباشرةً بالتسويات جنوب دمشق، من خلال الغارة الصاروخية على مواقع قرب دمشق. لكنّ الرد الإيراني جاء أكثرَ خطورةً مع إرسال طائرة بلا طيّار فوق الجولان المحتلّ، ما دفعَ إسرائيل لإسقاطها بصاروخ «باتريوت». هذه الرسالة اعتبرَتها إسرائيل نقلةً نوعية وخطيرة.
النائب الأميركي عن فلوريدا، حيث النفوذ اليهودي كبير، كان قد زار القدس بعد انتخاب ترامب، للبحث عن مقرٍّ للسفارة الأميركية، وهو قال منذ أيام إنّ ترامب سيعلن نقلَ السفارة الأميركية إلى القدس في نهاية شهر أيار.
الرئيس الأميركي نفسُه قال منذ أيام: «إسألوني بعد شهر عن نقلِ السفارة»، لكنّه استتبَع ذلك بالقول: «أريد سلاماً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لا يوجد أيّ سبب إطلاقاً لعدم التوصّل لسلام». واضحٌ هنا الربط الخفيّ لترامب بين نقلِ السفارة والتسوية التي يطلبها.
منتصفَ هذا الشهر يصل السفير الأميركي الجديد دايفيد فريدمان إلى مقرّ عملِه في تل أبيب مستبِقاً وصول رئيسه. لكنّ الأهمّ أنّ زيارة ترامب ستسبق انتهاءَ مهلة الأشهرِ الستة لقرار أوباما حول تأجيل نقلِ السفارة لأسباب أمنية، وهذا يعني أنه سيكون على ترامب إمّا تمديد القرار ستّة أشهر إضافية أو نقلُ السفارة. هذا القرار كان قد بوشِر العمل به عام 1995 حين صادقَ الكونغرس على قرار ينصُّ على نقلِ السفارة إلى القدس لكنّه سَمح للرئيس بتطبيق التنازل لمدة ستة أشهر لأسباب الأمن القومي، ويجري العمل منذ ذلك التاريخ على تجديد مهلة الأشهرِ الستة كلّ مرّة.
وفيما يربط ترامب بين نقلِ السفارة في الذكرى الخمسين لاحتلال القدس وبين الشروع في التسوية، تميل أجواء واشنطن للاعتقاد بأنّه سيسعى لستة أشهرٍ إضافية، لأنّ قرار التسوية النهائي يحتاج لبعض الوقت، ولو أنّ الآمال بإطلاق عجَلة التسوية كبيرة لكنّ الحكومة الإسرائيلية ترسل إشارات العرقلة: فوزارة الإسكان الإسرائيلية تُحضّر لأضخم خطة بناءِ وحدات سكانية في القدس وقرب رام الله، حيث تنوي تسويقَ المنازل لعائلات يهودية متشدّدة.
في المقابل، تبدو لعبة شدِّ الحبالِ بين السلطة الفلسطينية وحركة «حماس» في غزّة في أوجِها. فأزمة انقطاع الكهرباء إلى تفاقمٍ بعد وقفِ السلطة الفلسطينية دفعَ المستحقّات المطلوبة لإسرائيل، في وقتٍ تضغط واشنطن على قطر لمنعِها من التدخّل. فيما اعتبرَت «حماس» أنّ غزّة أضحت كبرميلِ بارود وأنّ الضغط عليه أكثر سيؤدّي إلى انفجاره.
أمّا واشنطن فتستعدّ لضغوط أكبر على إيران في سوريا، وعلى «حزب الله»، للتخفيف من تأثيرهما على الملف الفلسطيني.
مرحلة ضغطٍ متصاعد تضع المخيّمات الفلسطينية في لبنان تحت مجهر المراقبة.