تجاوزت انتخابات الرئاسة الفرنسية هذا العام الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار، إذ لم يتمكن أي من مرشحي الحزب الاشتراكي أو الجمهوري من الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وذلك للمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة على يد الجنرال شارل ديغول عام 1958.
وظهر جليا أن قطاعا واسعا من الناخبين الفرنسيين يرفضون ما يطرحه الحزبان الرئيسيان، ويبحثون عن حلول بديلة للأزمات التي تواجهها بلادهم، وعن قيادات جديدة بدلا من القيادات التي تحتكر الساحة السياسية منذ سنوات طويلة.
وكانت النتيجة أن تمكن جان لوك ميلونشون، وهو يساري متشدد، من الحصول على نحو 19 بالمئة من الأصوات، واستند في شعبيته إلى هجومه الشديد على النظام الرأسمالي، وانتقاداته الحادة للشركات الكبيرة، ورغبته في زيادة الضرائب عليها، غير أن أصوات المؤيدين له لم تكن كافية لكي تحمله إلى الجولة الثانية والنهائية من انتخابات الرئاسة الفرنسية.
واقتصر الأمر على كل من إيمانويل ماكرون، الشاب الذي يبلغ من العمر 39 عاما فقط، والذي يتزعم حركة “إلى الأمام”، وقد حصل على نحو 23 بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى، ومارين لوبان، التي كانت تتزعم حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتشدد، قبل أن تستقيل من رئاسته بعد الجولة الأولى من الانتخابات، والتي حصدت فيها قرابة 21 بالمئة من الأصوات.
ويتشابه ماكرون مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أنه لم يشارك في أي أنتخابات عامة قبل مشاركته في السباق الرئاسي. ومع ذلك جاء ماكرون في مقدمة السباق خلال الجولة الأولى ليتنافس مع لوبان. ويحمل كل منهما مشروعا مختلفا تماما لمستقبل فرنسا، ورؤية متباينة لمواجهة الأزمات السياسية والمالية والاجتماعية التي تعاني منها.
مشروع للنهضة باقتصاد فرنسا
يسعى ماكرون إلى أن تكون فرنسا أكثر انفتاحا، وأكثر قدرة على جذب الاستثمارات الخارجية. ويرى ماكرون، من خلال خبراته السابقة في العمل بأحد البنوك الاستثمارية في باريس، أو من خلال موقعه السابق كوزير للاقتصاد، أن القيود المفروضة على التوظيف والعمالة تحد كثيرا من قدرة فرنسا على جذب الاستثمارات.
ويتفق معه الكثير من الاقتصاديين، داخل فرنسا وخارجها، على أنه لا بد من القيام بخطوات جريئة للحد من العجز الكبير في الموازنة العامة الفرنسية المستمر منذ السبعينات، خاصة وأن فرنسا تنفق نحو 57 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على الخدمات العامة والقطاع الحكومي، وهي أعلى نسبة للإنفاق العام في كل منطقة اليورو باستثناء فنلندا.
كما أن فرنسا تعاني منذ نحو عشر سنوات من نمو بطيء في الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي ساهم في تصاعد البطالة لتصل حاليا الى نحو 10 بالمئة من أجمالي القوة العاملة. وبشكل عام، خسرت فرنسا السباق الأقتصادي في منطقة اليورو لصالح ألمانيا، التي تمكنت من القيام بإصلاحات اقتصادية واسعة منذ عدة سنوات، واستطاعت أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا بلا منازع.
ومن ثم، يطرح ماكرون برنامجا للنهوض باقتصاد فرنسا يقوم على تخفيض الضرائب على الشركات من 33 بالمئة تقريبا إلى 25 بالمئة، علاوة على تخفيض الإنفاق العام بنحو 60 مليار يورو لكي تظل فرنسا ملتزمة بألا يزيد العجز في موازنتها عن 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي القواعد الواجب اتباعها في منطقة اليورو.
كما يريد ماكرون إطلاق برنامج للاستثمار العام في البنية الأساسية ومشروعات البيئة وغيرها بقيمة 50 مليار يورو عبر خمس سنوات. ويريد أن تكون للشركات الحرية في أن يعمل الموظفون لديها أكثر من 35 ساعة، وهي عدد ساعات العمل في فرنسا حاليا، لكن لن يجبر العاملون على دفع تأمينات إضافية على هذه الساعات.
ويبدو أن ماكرون يقترب أكثر من نموذج بريطانيا التي تتمتع الشركات فيها بحريات أكبر في التوظيف، وتدفع ضرائب أقل، الأمر الذي يجعل السوق البريطانية أكثر جاذبية للمستثمرين.
علاوة على ما سبق يريد ماكرون أن تحتفظ فرنسا بموقعها القيادي في الاتحاد الأوروبي، ويبدو أكثر تقبلا للمهاجرين على اختلاف دياناتهم، كما سبق أن قام ماكرون بزيارة إلى الجزائر أثناء حملته الانتخابية، ووصف ما قام به الاستعمار الفرنسي في الجزائر بأنه جريمة ضد الإنسانية.
وعلى النقيض من مواقف ماكرون، تدعو مارين لوبان إلى سياسات حمائية تحافظ على مصالح الشركات الفرنسية، وعلى حقوق العمالة الفرنسية، حسبما تقول. ومن ثم، تريد لوبان منح تفضيلات للشركات الفرنسية عند تنفيذ أي تعاقدات مع الحكومة الفرنسية وقطاعها العام.
كما تريد فرض ضرائب إضافية على توظيف غير الفرنسيين في أي قطاع، عام أو خاص، داخل فرنسا للتشجيع على توظيف الفرنسيين.
العداء للاتحاد الأوروبي وللمهاجرين
نظرا إلى أن كل ذلك يخالف قواعد السوق الأوروبية الموحدة، التي تضمن حقوقا متساوية لمواطني الدول الأعضاء بالسوق عند التوظيف، تسعى لوبان للخروج من الاتحاد الأوروبي، والتخلي عن اليورو والعودة لاستخدام الفرنك الفرنسي. ووعدت ناخبيها بإجراء استفتاء عام على الخروج من الاتحاد الأوروبي، على غرار ما تم في بريطانيا، في أسرع فرصة ممكنة إذا تم انتخابها.
كما ترفض لوبان تغيير ساعات العمل لكي تظل 35 ساعة فقط في الأسبوع على أساس أن هذا من بين المكاسب التي حصل عليها العمال الفرنسيون.
بالإضافة إلى كل ما سبق تطالب لوبان بتعليق كافة أشكال الهجرة الشرعية حتى تتم السيطرة على الحدود بالكامل، وبعدها لن تقبل بأكثر من مئة ألف مهاجر سنويا. ويستدعي هذا ضرورة الخروج من اتفاقية “تشينغن”، لأن هذه الاتفاقية تسمح بالتنقل بسهولة بين عدة دول أوروبية.
كما تطالب لوبان بفرض قيود على أنشطة المساجد، وإخضاع الأئمة لرقابة صارمة، ومنع الصلاة خارج المساجد، كما يحدث في صلاة العيد، وانتقدت بشدة موقف ماكرون من إدانة الاستعمار الفرنسي للجزائر، خاصة وأن والدها كان ضابط مظلات فرنسي شارك في قمع الثورة الجزائرية.
ويمكن القول إن ما تقدمه لوبان هو التراجع عن مشروع الوحدة الأوروبية، وإغلاق أبواب فرنسا قدر المستطاع أمام المهاجرين، والتضييق على الأنشطة الإسلامية، ورفض فكرة أن يكون المجتمع الفرنسي متعدد الثقافات.
ويلقى كل هذا بلا شك ترحيبا من جانب أنصار لوبان، إذ نجحت في الحصول على أصوات 6.8 مليون فرنسي، وهو أكبر عدد من الناخبين الذين صوتوا لصالح “الجبهة الوطنية” منذ تأسيسها، وهو إنجاز سياسي يعني أن هناك كتلة هامة في الشارع الفرنسي تؤيد لوبان، ولا يمكن إهمالها أو تجاهلها.
ويمتد الاختلاف بين مشروع ماكرون، القائم على الانفتاح والعولمة، ومشروع لوبان، القائم على الانغلاق واتباع سياسات حمائية، إلى الجمهور الذي يؤيد كلا منهما. أغلب المؤيدين لماكرون ينتمون إلى الطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة، ولديهم مستوى جيد من التعليم ومن الدخل، ويعيشون في المدن الكبيرة.
وحسب أرقام أوردتها مجلة “الأيكونوميست” البريطانية فإن نحو 72 بالمئة من أنصار ماكرون يصفون أنفسهم بأنهم “متفائلون”، ويرون أن ماكرون يقدم أفكارا إيجابية. وعلى النقيض فإن 29 بالمئة فقط من أنصار لوبان يقولون إنهم متفائلون، وينتمي الكثير من أنصارها إلى الطبقات العاملة أو من يعانون من البطالة، ويعيش الكثير منهم في المناطق الريفية، ويشعرون أن الانفتاح وتدفق المهاجرين على فرنسا أضر بفرصهم في العمل.
وتبدو صورة أنصار لوبان متشابهة، بدرجة ملحوظة، مع قطاع واسع ممن صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ يعيش الكثير منهم خارج لندن، ولديهم درجة أقل من التعليم، ويعانون بدورهم من تدفق العمالة من دول الاتحاد الأوروبي، ولهذا كان اختيارهم هو الخروج من هذا الاتحاد.
غير أن الاختيار في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية، والتي تتم في 7 مايو 2017، أوسع من مجرد الاستمرار بعضوية الاتحاد الأوروبي أو التخلي عنها، بل هو اختيار بين طريقين مختلفين تماما:
طريق ماكرون الذي يريد من الفرنسيين أن يتحركوا بسرعة إلى الأمام، كما فعلت ألمانيا، لكي تكون بلادهم أكثر انفتاحا، ولكي تتمكن شركاتهم من المنافسة والتطور، ويتمكن اقتصادهم من تخطي أزماته.
وطريق لوبان التي تريد من الفرنسيين أن يتراجعوا إلى الخلف، وأن يغلقوا الأبواب على أنفسهم لكي يحافظوا على وظائفهم وثقافتهم ونمط حياتهم، حتى لو كان أستمرار نمط الحياة الفرنسي الحالي بتكلفته الباهظة غير ممكن في الأجل الطويل. المشكلة أن دولا كثيرة في عالم اليوم تتقدم بسرعة، ومن يعجز عن مجاراتها في التحرك إلى الأمام لا بد أن يخسر، ولو بعد حين.