الاستعمار فكرة قديمة بمعناها السلبي أو الايجابي , سواء كانت بنيّة إعمار الارض وهذا الجانب الايجابي منها , أو كانت بنيّة إغتصاب ما عمّره غيرُك طمعا به بما يمثّل من خيرات وهذا الجانب السلبي منها لم يقتصر على تملّك مُلك الغير المادي , لأنه يحتاج في كثير من الاحيان لمقدمات تؤدي إلى إضعاف المطموع به كي تكون السيطرة عليه وعلى ما يملك سهلة المنال , أو قد يكون الطامع أقوى بما يملك من عدّة وعتاد وبالتالي يسهل عليه السيطرة على الاخرين وسلب أو غصب ما يملكون .
وللإستعمار وجوه عديدة منها إيجابي ومنها سلبي , وما يعنينا هنا هو الجانب السلبي الذي يرتدّ علينا بخسائر فادحة على كل المستويات , وأهم هذه الخسائر التي تكون بمعنى المصائب التي يتفرّع عنها كوارث تؤدي إلى تفتيت التاريخ والحاضر والمستقبل , هي المصائب الفكرية والعقلية التي على اساسها تُبنى الحضارات أو تُهدّم , لأنه من السهل بمكان إعادة ترميم ما قد يتهدّم من بناء مادي , ولكن ليس من السهل ترميم وإعادة تشكيل البنية العقلية حيث تحتاج إلى مئات السنين , وتجربة الشعوب التي نهضت حضارياً ماثلة أمامنا , وكم عانت عبر قرون حتى فتحت للعقل مجالا كي يتحكم ويحكم ويخلق للإنسان مكانا يليق به , وبقدره وكرامته التي إرادها له الله .
بعد أن إكتشف الغربُ أن للعقل الدور الاكبر , بل كل الدور في بناء الحضارة والتقدم والسيطرة على الطبيعة والتحكم بها , بدل أن تتحكم هي بالعقل وبالانسان , إستعمل هذا الاكتشاف من أجل السيطرة على الشعوب التي غيّبت العقل بإرادتها , وبذلك قد ساعدت الطامع بخيراتها , وفتحت له الابواب لكي يسعى ويعمل لضربه أكثر وتغييبه أكثر , وقد نجح بذلك ونحن في سبات عميق نمجد تاريخنا العلمي العقلي الذي قضينا عليه وطردناه من بيننا بعد أن إتهمناه بالزندقة وإلقينا عليه حُرما , وتلقاه الغربُ وعرف قيمته فأسس عليه حضارته التي حكمتنا وإن إستفدنا منها قليلا بما أنتجته من وسائل مادية , أعني بذلك العقل الاسلامي الكبير الفيلسوف إبن رشد .
مشى الغربُ مع العقل فأوصله إلى السماوات الحقيقية , وتركناه متوهمين أننا في السماوات , كمن مشى باتجاه السراب متوهما الماء من بعيد , وما زلنا نمشي والسراب يمشي , وهم يمشون والماء بين إيديهم , يمشون باتجاه المستقبل فينتجون حاضرا حضاريا , ونمشي باتجاه التاريخ فننتج ندبا على ماضٍ لا يغني ولا يسمن , بل يزيدنا غورا في عمق التاريخ ونستوطن فيه , بذلك نتحوّل إلى خدّام للإستعمار , وهو مستعدٌ أن يعطينا كل الوسائل التي تساعدنا على البقاء في عمق التاريخ , ويساعده على ذلك عقول في عالمنا العربي والاسلامي طابت لها عتمة التاريخ لأنها وسيلتها للتمسك بالسلطة وإلهاء الناس بالبحث عن قبسٍ فيه أمل بالنجاة , وأكثر من ذلك فإنهم يقولون للناس لا تبحثوا , فإن النجاة في السماء وما عليكم إلا أن تدعوها بالندب والبكاء والتذلل , وسوف ينصركم الله على الظالمين ذات يوم