زيارة تاريخية للبابا فرنسيس الثاني لمصر، تحمل بين ثناياها رسالة سلام في ظل مرحلة دقيقة تمرّ بها البلاد ومنطقة الشرق الأوسط ككل، وتفتح الزيارة الباب أمام إعادة الزخم إلى مسألة إطلاق حوار بين الأديان بات العالم في أمس الحاجة إليه.
بدأ البابا فرنسيس الثاني زيارته الأولى إلى القاهرة، الجمعة، في محاولة لتحقيق جملة من الأهداف المشتركة بين الفاتيكان والكنيسة المصرية ومؤسسة الأزهر، في وقت تتزايد فيه التهديدات الإرهابية واستهداف الأقباط في مصر.
وهذه أول زيارة للبابا إلى مصر منذ 17 عاما، حيث كانت آخر زيارة للبابا يوحنا بولس الثالث في العام 2000.
والتقى البابا فرنسيس فور وصوله إلى القاهرة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وأكد أن زيارته بمثابة رسالة “وحدة وأخوّة”.
وقال الحبر الأعظم إنه “يشجع العديد من المساعي” في مصر لتحقيق “التنمية والسلام” مشددا على أنها غايات “تتطلب قبل كل شئ الاحترام غير المشروط لحقوق الإنسان غير القابلة للمساومة كالحق في المساواة بين كافة المواطنين وحق حرية الدين والتعبير دون أدنى تمييز”، في انتقاد ضمني لطريقة تعاطي القاهرة مع مسألة حقوق الإنسان.
ودعا خلال اللقاء الذي حضره العديد من المسؤولين المصريين القاهرة “لأن تثبت أن الدين لله والوطن للجميع”.
زيارة البابا إلى مصر تضمّنت لقاء شيخ الأزهر أحمد الطيب (بمقر المشيخة شرق القاهرة)، حيث توجها معا إلى المؤتمر العالمي للسلام (بقاعة المؤتمرات بالقاهرة).
وأكد البابا في كلمة ألقاها في المؤتمر الذي ينظمه الأزهر أن “ما من عنف يمكن أن يرتكب باسم الدين أو الله”.
وشدد “لنؤكد سويا استحالة الخلط بين العنف والإيمان، ولنعلن معا قدسية كل حياة بشرية ضد أي شكل من أشكال العنف”.
وقال البابا “إننا بحاجة اليوم الى بناة سلام، لا إلى محرّضين على الصراعات، إننا بحاجة إلى رجال إطفاء، لا إلى مشعلي نيران”.
وحث على ضرورة وقف “تدفق الأموال والأسلحة نحو الذين يثيرون العنف”. ودعا إلى إقامة حوار بين الأديان لنزع الخلافات والتوصل إلى سلام دائم.
من جانبه أكد شيخ الأزهر أحمد الطيب في كلمته بالمؤتمر أن “الأديان السماوية ليست أديان إرهاب”، داعيا إلى “عدم محاكمة الأديان بسبب أن طائفة من المؤمنين (لم يحددها) استخدموا نصوصًا وأوّلوها تأويلا خاطئًا”.
ويتوقع مراقبون أن تفتح الزيارة صفحة جديدة في العلاقة بين الأزهر والفاتيكان، التي شهدت توترا في عهد البابا السابق.
وكان الأزهر قد جمّد علاقته مع الفاتيكان في العام 2006 إثر اقتباس البابا السابق بنديكت السادس عشر في محاضرة، مقولة لأحد الفلاسفة يربط فيها بين الإسلام والعنف، ما أثار استياء الأزهر، في ذلك الوقت.
وبسبب ذلك الاقتباس، قرر شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي، تجميد الحوار مع الفاتيكان عام 2006 لمدة عامين.
وفي العام 2011، جدد الأزهر تجميد الحوار مع الفاتيكان بعد تصريحات للبابا بنديكت طالب فيها بحماية المسيحيين في مصر، عقب استهداف تفجير لكنيسة القديسين في الإسكندرية شمالي البلاد.
غير أن الجليد بدأ بالذوبان في نوفمبر 2014، حين التقى الرئيس المصري، البابا، في زيارة هي الأولى من نوعها له إلى الفاتيكان، بعد وصوله إلى السلطة في يونيو 2014.
وفضلا عن تعزيز التعاون مع مؤسسة الأزهر في مواجهة الأفكار المتطرفة، يسعى بابا الفاتيكان خلال زيارته إلى تأكيد دعمه للأقباط المصريين الذين يمثّلون أكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط، خاصة بعد الاعتداءات التي استهدفتهم مؤخراً، وسيستثمر الزيارة لتحقيق رغبات كنسية مختلفة تنادي بالتقارب بين الطوائف المسيحية المختلفة.
وتنتظر الكنسية المصرية دعماً أكبر لها، سواء من الحكومة المصرية أو من قبل مؤسسة الفاتيكان، للوقوف أمام التفجيرات التي استهدفتها مطلع الشهر الجاري، وهو الدعم الذي قد تحققه زيارة البابا.
وتأتي هذه الزيارة بعد أسبوعين من إعلان حالة الطوارئ بالبلاد إثر تفجيرين انتحاريين تبناهما تنظيم داعش ضد كنيستين قبطيتين، ما أضفى عليها أبعادا أمنية أخرى تمثلت في تشديد الإجراءات الأمنية في محيط الكنائس المصرية، وفرض المزيد من السرية على تحركات البابا خلال فترة تواجده في مصر.
وبحسب مراقبين، فإن الزيارة تحقق أهدافًا مشتركة أخرى على رأسها ترسيخ دور أكبر للفاتيكان في منطقة الشرق الأوسط، وتأكيد الدولة المصرية على أن العمليات الإرهابية لن تعطل قيامها بأدوار إقليمية أكبر، وكذلك فإنها تصبّ أيضاً في صالح تسليط الضوء على مؤسسة الأزهر باعتبارها المؤسسة الدينية الإسلامية الأولى في العالم التي تستطيع أن تواجه الفكر المتطرف.
وقال مدحت بشاي، الكاتب والمفكر القبطي، لـ“العرب”، إن الزيارة لا تنطوي على أهداف سياسية كبيرة بقدر أهميتها على المستوى الديني المسيحي، إذ أنها تمثل بداية التقارب الحقيقي بين المذاهب المسيحية المختلفة، وهو ما يسعى إليه البابا فرنسيس منذ جلوسه على الكرسي البابوي.
وأضاف إن الأشهر الماضية شهدت مباحثات كنسية متعددة داخل الفاتيكان للوصول إلى نقاط اتفاق حول توحيد أو تقريب الطقوس والشعائر الكنسية، وتحديدا بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، وهو ما يسعى البابا إلى تحقيقه من خلال إيجاد نقاط اتفاق مع الكنيسة المصرية باعتبارها الممثل لأكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط.
وأوضح بشاي أن توجه البابا الساعي نحو إقامة علاقات سلام مع بلدان العالم الإسلامي باعتبارها أهم خطوات مواجهة التطرف العالمي كان دافعاً قويا للقدوم إلى مصر، إذ أن مصر تمثل نموذجا للأغلبية المسلمة التي تتخذ من مؤسسة الأزهر نموذجا للأفكار الوسطية، وبالتالي فإنه يرى أن مواجهة التطرف من خلالها قد يأتي بنتائج إيجابية على المستوى العالمي.
ومن المتوقع أن تشهد الزيارة صدور وثيقة سلام عالمية متفق عليها بين الأزهر والفاتيكان تؤكد على أن هناك تقاربا فكريا بين الطرفين لمواجهة التطرف العالمي بجميع أشكاله، وتبرهن على أن العالم الغربي مازال يثق في المؤسسات الدينية الرسمية في الشرق الأوسط لمواجهة الإرهاب، كما أن الأمر ذاته يرتبط بالكنيسة المصرية التي ستكون أمام أدوار فكرية أكبر للتعامل مع التطرف المتنامي في منطقة الشرق الأوسط.