أنهى الرئيس الأميركي دونالد ترامب فترة السماح، وهي المئة يوم الأولى من ولايته الرئاسية. وضع ترامب خلال هذه الفترة الركائز الضرورية لسياسته الخارجية، تعمّد توجيه «الرسائل» بجميع الاتجاهات وبجميع الوسائل. حيث يجب استخدام النار فعلا، وحيث تجب الدبلوماسية سار بها. لكن كل ذلك لا يعني أنه رئيس استثنائي، ولا رئيس إذا وعد التزم، الأهم أنه قال للجميع: «أنا قادر وأنا أنفّذ». السؤال الطبيعي إلى أي مدى يمكنه الذهاب في التنفيذ؟
من المهم الإشارة أولا، إلى أنه كان مرشحا رئاسيا منفتحا على موسكو بلا حساب، فأصبح رئيسا يعمل في كل مساراته وهو يأخذ في الاعتبار السياسة التقليدية الأميركية التي ما زالت تعتبر موسكو خصما لا يجب التحالف معه. في أقصى الأحوال التفاهم على نقاط وتنفيذها من دون الوصول إلى الشراكة. طبعا وراء هذا التطوّر، محاولة «القيصر» لعب دور الشريك المطلق الصلاحية، مما أثار ردود فعل قوية من المؤسسات العسكرية والأمنية فسارعت إلى إبلاغ الرئيس ترامب أن شيئا لم يتغيّر في العالم حتى تتغيّر الاستراتيجية الأميركية.
معرفة ماذا يريد ترامب، وكيف ينفذ ما يجب مهم جدا. أَمَرَ ترامب بضرب مطار «الشعيرات» السوري، فأكد بذلك أنه لن يسمح للرئيس بشار الأسد متابعة وضع أميركا والعالم أمام: «أنا أو داعش». صواريخ توماهوك، أكدت السياسة «الترامبية»: «لا أنت ولا داعش». السؤال كيف؟ من المؤكد أن السياسة الترامبية لن تصل إلى مرحلة الانخراط العسكري الواسع والعميق. تكفي سياسة «الجرعات»، واستثمار مفاعيلها فيما بعد في المفاوضات العلنية والسرّية معا.
رغم بقاء «الاستراتيجية الترامبية» في الشرق الأوسط غامضة. وحدها الأفعال ستُخرجها من الضباب وتوضحها، فإنه يمكن وضع بعض الخطوط النافرة التي ستتأكد بعد جولة ترامب في المنطقة على كل من إسرائيل والسعودية ومصر. واشنطن لن تتخلى عن إسرائيل، لا بل ستعمل على دعمها أكثر فأكثر. ثمة سؤال دقيق: هل يندفع ترامب إلى نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، أم سيكتفي بترك المسار يأخذ مداه على قاعدة انتظار انتهاء بناء السفارة؟
السعودية في هذه الجولة لن تكون «محطة» عادية، إنها اختيار لتأكيد استراتيجية «ترامبية» في منطقة الخليج والشرق الأوسط في مواجهة الخصم الحقيقي لواشنطن وهي إيران.
حتى الآن يبدو الرئيس ترامب وكأنه على عداء مُستحكم مع إيران. لن يصل هذا العداء إلى درجة شنّ الحرب الشاملة إلاّ في حال وقوع حدث يكسر كل الخطوط الحمراء. ولكن الرسالة واضحة: على إيران أن تبقى قوية داخل حدودها الجغرافية. طهران استثمرت جميع ما تملكه وما يمكنها أن تملكه في سوريا ولبنان والعراق واليمن، لتصبح «امبراطورية» أكبر من «الهلال الشيعي»، مما هدّد ويهدّد الآخرين من «بناة» الجغرافيا الشرق الأوسطية. وإذا كانت المواجهة الشاملة صعبة جدا، إن لم تكن مستحيلة، فإن «الحرب الناعمة» كفيلة بتغيير موازين القوى ودفع من يعتقد أنه لا يُهزَم إلى التفاوض على طاولة الواقع وليس الطموحات.
الظاهر من الاستراتيجية الترامبية حتى الآن، أن سوريا متروكة ساحة حرب ومواجهة حتى إشعار آخر. توقف منذ زمن طويل عدّ الخسائر فيها بعد أن تحوّلت إلى «آلة» لا تُنتج سوى الخسائر للجميع. أصبح الوجود العسكري الأميركي بارزا ومنتشرا وفاعلا بصمت، ومؤسّسا لتواجد أكبر وعلى مستوى استراتيجي بهدف محاصرة إيران بعيدا عن «دوائر النار» الناشطة فيها سواء في سوريا أو العراق.
ماذا أيضا عن «الحرب الناعمة»؟ ترامب ينتظر نتائج الانتخابات الإيرانية، فإذا فاز رئيسي ومعه خامنئي و«صقور» الحرس الثوري، فإن الرد سيكون قويا أولا في اليمن التي كما يبدو نضجت فيها كل أسباب التغيير القائمة أساسا على أن باب المندب ممرّ دولي غير مسموح فيه لإيران ولغيرها من القوى الإقليمية وضع اليد عليه. الحل في اليمن سيكون في المستقبل القريب كما يبدو - برغم مسارعة إيران إلى تغذية «الحرب المائية» بالزوارق الانتحارية والصواريخ - سياسيا ودائما على قاعدة «الطائف».
«الحرب الناعمة» قوية في العراق، رغم أن النفوذ الإيراني تمدّد إلى قلب «الجسم العراقي» في معظم تكاوينه. تجري حاليا عملية بطيئة لفكفكته ودفع العراقيين نحو التحرّر والاستقلال من النفوذ الإيراني تحت شعارات وطنية تشفي العراقيين من «وباء» المذهبية، التي وإن كانت موجودة من قبل إلا أن إيران غذّتها وأمدّتها بكل أسباب النهوض والقوّة.
مهما كانت واشنطن قوية، فإنها تبقى محكومة بالوقائع الدولية وأبرزها الحضور الروسي الطموح. واشنطن تضع حساباتها وفقا لقاعدة أخذ ما يمكن انتزاعه من الأطراف من دون مواجهة مع المركز. موسكو بدورها تتقدم وتتراجع على وقع «الكراسي الموسيقية الترامبية». أيضا موسكو تنشط وهي تأخذ بحساباتها أوكرانيا والقرم وإسرائيل وأمنها. في ذلك أنها تدعم الأسد وتقوّيه، لكن ليس كما تريد طهران «ليبقى إلى الأبد»، ولكن لرفع قيمته و«سعره» عندما تدقّ ساعة الجلوس إلى طاولة المفاوضات. لذلك فإن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يعقد في قاعة، لقاء ثلاثيا مع وزيرَي الدفاع الإيراني والسوري، لبحث الشؤون السورية، وفي قاعة أخرى يجتمع مع وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان الذي دخل الاجتماع وفي جعبته الغارة الجوية على مطار دمشق.
بذلك تتكامل الاستراتيجية الروسية القائمة على «المقايضة» وليس الشراكة؛ لأن مصلحة روسيا فوق كل شيء تحت إدارة «القيصر» يوما بعد يوم، الذي يعمل وفقا لشعار أو قاعدة «لا توجد خلافات غير قابلة للتجاوز».
أمام المنطقة والعالم «صيف» حار، مقدّماته تتشكّل بسرعة وبقوّة من باب المندب إلى مضيق البوسفور.. ودائما على حسابنا!