كان لبنان لا يزال يستجمع "أشلاءه" ويحاول جاهداً أن يتعافى من آثار الحرب التي طحنته، حين دخل برنامج تلفزيوني أجنبي إلى منازل اللبنانيين، فوّحدهم حوله وأدخل ضحكات كانت ضرورية في ذلك الحين. L'École des fans، البرنامج الفرنسي الذي تعرّف عليه اللبنانيون في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي لا يزال في ذاكرتهم محطة مميّزة ومضيئة، وما انفكّ الحنين إلى تلك اللحظات التي تفيض بالبراءة والسعادة والمرح يتفاقم ويشتدّ. ولعلّ القيمة المضافة على البرنامج، إن لم نقل الجوهر والأساس، كان مقدمّه متعدد المواهب جاك مارتان الذي أتقن محاورة الأطفال بأسلوب ذكيّ، فكاهيّ وممتع. الرجل الذي تيّتم في سنّ مبكرة، جمع حوله الأطفال مُبرزاً مواهبهم، وخلق حالة تلفزيونية شدّت الجماهير من حول العالم إليه.
على مدى الأسبوعين الأخيرين الماضيين، استعاد المشاهدون اللبنانيون تلك اللحظات مع عرض برنامج "أحمر بالخطّ العريض" حلقتين متتاليتين بعنوان "أحلى يوم بحياتي". على الأرجح، لم يكن في بال الإعلاميّ مالك مكتبي أو من أهدافه تقديم هاتين الحلقتين للتذكير ببرنامج من هنا أو تحريك حنين من هناك. جلّ ما أراده هو أن نعيش جميعاً لحظات بريئة في حاضرنا تدفعنا الى الرغبة بالعودة إلى ماضي الطفولة الورديّ حيث الأحلام ممارسة يوميّة. "ما بدي إكبر"، قالها مكتبي "لأن الفرح هنا يغلب". استضاف أطفالاً من الوطن العربي ليحقق أحلامهم أياً تكن، وليضيئ على مواهبهم ويحضّهم على تنميتها. خشبة مسرح، بالونات ملوّنة، ورود وكثيرٌ من الحب والدعم جعلوا الصغار يعيشون أحلى يوم في حياتهم. أما الكبار الذين تسمّروا أمام شاشة اشتاقت الى لون وصدق وبساطة، فما رغبوا بأن تنتهي تلك الأحلام، رغم تسجيل عدد منهم ملاحظات حول توقيت عرض الحلقتين في وقت متأخر حيث لن يتسنّى لأطفالهم متابعتها، في حين اعتبر آخرون أنّ "أحمر بالخطّ العريض" بات متضعضع الهوية اذ ما انفكّ يتنقل بين مواضيع متباينة جداً، كلّ منها لها جمهورها الخاصّ.
واذا كانت هذه الملاحظة تحمل بعض الحقيقة والواقعية، فما علينا إذاً سوى التشديد على مطلب، تأكدنا بعد عرض الحلقتين من أنه حاجة ماسّة، ألا وهو تقديم برنامج كامل متكامل يحاكي "أحلى يومم بحياتي". ولم لا ما دام الأطفال هم السعادة والبراءة والبساطة والمتعة، ووجودهم في يومياتنا التلفزيوينة صار فسحة استراحة من كلّ الترهات وسباقات الرايتينغ التي تغزو الشاشات؟ ولم لا ما داموا جميعاً رابحين وفرحين بتحقيق أمنياتهم المتواضعة والعظيمة في آن أو في إبراز مواهبهم؟ والحال أنه ليس من المطلوب أن يكون مالك مكتبي جاك مارتان، وهو لن يكون لأنه حالة خاصة لا تشبه إلا نفسها. لقد أثبت مكتبي قدرة لافتة على محاورة الأطفال، بل على "التوّرط" في العودة طفلاً لا يكبح ضحكة أو دمعة ولا يحتفظ بسرّ أو حكاية، تماماً مثلما فعل ضيوفه الصغار. أختان جميلتان من زغرتا ريتا ماريا ونادالين، تحبان "سليمان بيك لأنو الماما بتلاقي مهضوم".
شربل وماجد فضحا أسرار الحبّ والغرام، وراما من فلسطين أبكتنا حين أغمضت العينين حالمة بالغناء في بلدها، وقد غنّت "موطني". سيرج، ابن السنتين، في مشهد لا يتكرر وهو يعزف على الطبلة وفي فمه الـ "تيتين". أما علي، صاحب الصوت الجبلي هزّنا في أعماقنا، وهو الذي ترك المدرسة لأن "الآنسة ضربته". رسالة في جيبه من "حبيبته" لم يتمكن من لأنه لا يجيد القراءة والكتابة. قرأها مكتبي، ووعده بأن يساعاده على العودة الى المدرسة وعلى تعلّم الموسيقى أيضاً. وعد الحرّ ليس ديناً وحسب هنا، إنما نعمة. عمّ علي، في عمر البراءة ايضاً. مشهد فريد من نوعه، تماماً كما صوت سميح. كريستينا في بدلة الرقص الشرقي و"هزّ خصر وأكتاف" واطلاع على مشاهير هذا الفنّ.
وفي الحلقة الثانية، يُستكمل الحلم، ونرى الحياة من عيون الصغار. وكما سابقتها، نتحسس مرة جديدة ذكاء هذا الجيل الذي يلج إلى يوتيوب لتطوير المواهب والتعلّم. كريستا ماريا ماهرة في استعمال الخلوي وكم جميلة بعينيها الزرقاوين في "السيلفي"، وفي الغناء. وكريم يعزف علىى البيانو منذ أن كان في الثالثة من عمره. أمام هضامة شربل، ما توّقفت قلوبنا عن الرقص في الصدور. ومن فيروز المصرية رسالة الى أطفال العالم"كلنا واحد". ماذا يعني ذلك؟ "مش همّ مسيحية أو مسلمين"! آيا مثل الفراشة تحاول أن تعلّم مكتبي الرقص، وقلبها الصغير يرقص لزوج خالتها "عبدالله" و"رفيقتها شريفة فاضل"! يوسف من بعلبك يتحدث عن التراث اللبناني ويدبك بعصا الخيزران. جينيفر يستهويها "الماكياج" الذي كانت والدتها ممنوعة عنه من قبل جدها. تيريزا ماريا، ريتا ماريا وجوزيف، اخوة اجتمعوا في أغنية لأسمهان.
يا الله، هل من أروع؟!
ليس من المبالغة فعلاً القول بأن المتعة التي شعر بها مكتبي، يُحسد عليها. وإذا كان قد أقرّ بأن هؤلاء الأطفال قد علموه كيف يدافع عن الحلم، فإننا بدورنا نقرّ ونعترف بأننا قبلنا التحدي الذي عرضه علينا. حين استهلّ الحلقة الأولى، قال مكتبي بثقة: "رح نطير لحقونا اذا فيكم... لحقونا".
لقد فعلنا يا "مالك"! شكراً لك! لقد حان دورك، رجاء إلحق أحلامنا نحن وحققها. فليكن على الشاشة برنامج يجعلنا نخلد الى النوم مرددين.."أحلى يوم بحياتي"!