بمجرّد أن يطرح وزير الخارجية جبران باسيل مجدداً، مسألة التصويت على القانون الاثوذكسي كبداية، لأجل تفادي التمديد للمجلس النيابي، فهذا كفيل بتوضيح مدى الاختلاف بين التيار الوطني الحر وحزب الله. لم يعد الخلاف يحتاج إلى دليل. طرح الأرثوذكسي لا يستهدف إلّا حزب الله، ويستفزه. لماذا؟ لأن باسيل يجيد فعل الإستفزاز بالنسبة إلى أخصامه، ويعرف جيداً من أين تؤكل الكتف. يراهن باسيل على أن حزب الله في "جيبه"، لكن الحزب لا يمكن أن يكون مطواعاً لدى أحد من لبنان إلى سوريا والعراق، ومخطئ باسيل في التقديرات. هذا جانب من الرسائل غير المباشرة التي جرى تناقلها في مرحلة معينة.
لكن باسيل، مصرٌّ على طريقته التصعيدية. يراهن على أمر أساسي، لاستفزاز الحزب في الأرثوذكسي. وهو استنساخ ما يشبه ورقة التفاهم بين الحزب التيار الوطني الحر برئاسة ميشال عون آنذاك، ولكن هذه المرّة أن يكون باسيل هو ناسج هذه الورقة وبوابتها قانون الانتخاب. يعتبر باسيل أن حزب الله أبرم وثيقة مار مخايل، في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان كان فيها يتعرّض لمحاولة عزله طائفياً، فجاءه عون مخلّصاً وضع أكثر من نصف المسيحيين على يمين الحزب لدعمه ومساندته وفكّ العزلة عنه. وليس التشدد في طرح الأرثوذكسي حالياً، إلا استدراج عرض جديد من قبل باسيل للحزب. إذ يعتبر وزير الخارجية أن الطرح المذهبي قد يشكّل فزّاعة بالنسبة إلى حزب الله في غمرة التشنج الطائفي والمذهبي في المنطقة، فيما الحزب بأمس الحاجة إلى حاضنة شعبية وسياسية غير طائفية في ظل حربه السورية. لذلك، يريد من خلال قانون الانتخاب الاحتفاظ بهوامش من الطوائف الأخرى، كما يريد من خلال النسبية الكاملة، إظهار وجود عدد كبير من الأصوات غير الشيعية التي تصوت له.
على هذا الوتر يلعب باسيل. وكأنه يقول "كي نقلع عن الأرثوذكسي أحتاج إلى قانون انتخابي يخوّلني الحصول على أكبر كتلة مسيحية، ويخوّلني خوض غمار المعركة الرئاسية المقبلة". وتبقى الإهتمامات الأخرى تفاصيل، هو قادر على توفيرها للحزب. يمرر باسيل هذه الرسائل في وقت يعلن أن مساحات الإتفاق على قانون انتخابي بدأت تضيق. بالتالي، فهو يريد حشر الجميع في الزاوية بعد سقوط كل مقترحاته. يستفزّ حزب الله بطريقة إبتزازية، لأنه يعلم أنه حين يوافق الحزب على ما يريده، لن يمانع أحد السير به. وهو الذي يستند إلى تفاهم ثابت مع نادر الحريري.
يصرّ حزب الله على عدم إظهار أي إشكال مع حليفه المسيحي أو مع رئيس الجمهورية ميشال عون. لكن الخلاف مع باسيل بلغ مرحلة متقدّمة جداً، ولم تعد خافية على أحد، بموازاتها أيضاً ثمة همس يدور في الكواليس، عن عتب لدى حزب الله على رئيس الجمهورية، الذي يفوض باسيل التفاوض بكل شيء، وكأن لديه صلاحيات مطلقة. كذلك يحرص الحزب على استمرار العلاقة الجيدة مع الرئيس، صاحب الموقف نفسه، وهذا ما تجلّى في موقفه ازاء العقوبات الأميركية التي ستفرض على حزب الله، والتي وصفها بأنها ستتسبب بضرر للبنان ككل، وهي لا تعبرّ عن العلاقة المتآلفة بين لبنان والولايات المتحدة.
لكن الموقف الذي أطلقه عون، سيكون له وجه آخر بحسب متابعين، أي على غرار مواقفه كلّها، فهو حين يؤكد وجوب دعم الجيش يرفق ذلك بتأكيد أهمية دور حزب الله في محاربة الإرهاب والمقاومة. بالتالي، فإن للموقف نقيض آخر، ربما لايزال غير ظاهر. وهو ما تفسّره مصادر متابعة بأنه قد يكون موقفاً آخر يسلّفه للأميركيين وللمجتمع من دون معرفة مضمونه حتى الآن. لكن المصادر تربطه بأن عون وفي إحدى رسائله إلى الأميركيين، طالب بعدم شمول أحد من المحسوبين عليه في العقوبات، وضرورة فصله عن حزب الله، لأنه يلتزم القوانين الدولية. ويطالب بفصل نشاط حزب الله السياسي في لبنان عن نشاطه الخارجي. لكن، قد تكون هناك قطبة مخفية حتى الآن، لا بد للأيام أن تظهرها، أو أن تعالجها.
يتفهم حزب الله موجبات الرئاسة، وما تفرضه الأنظمة البروتوكولية. لذلك، يبدو متفهماً أكثر لعون ولما يقوم به، وهو لا يبدي إنزعاجاً من أدائه. أما في مسألة قانون الانتخاب، وما يتولاه باسيل، فالأمر مغاير. وهنا، لا يمكن اخفاء عتب الحزب على الرئيس الذي يفوّض صهره الذي يطمح لإعادة لعب دور "السلطان سليم".. كل شيء.