استوقف تصريح كيسنجر الباحث ماثيو كرونيج، الذي نشر في أحد أعداد مجلة شؤون خارجية "فورين أفيرز"، التي تصدر كل شهر عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، تحليلا مطولا رصد خلاله التطورات الحاصلة في الإدارة الأميركية خلال المئة يوم الأولى لترامب، الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.
ابتدع تقليد المئة يوم الفرنسيون واتخذه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1933-1945) كمقياس لتقييم أداء الإدارة الجديدة في فترتها الأولى وما تخلفه من انطباعات أولية بشأن سياستها وتوجهاتها.
ورغم أن ما يحدث خلال هذه الفترة التي تتجاوز الثلاثة أشهر بقليل نادرا ما يسهل الحكم على مدى فشل أو نجاح الرئيس الجديد، إلا أن الإطار العام الذي يأتي في سياقه هذا الرئيس قد يساعد على تحديد بعض ملامح ولايته، خصوصا عندما يأتي في فترة مضطربة.
عندما أطلق الفرنسيون تقليد المئة يوم كانت بلادهم تمر بفترة مضطربة. عاد نابليون بونابرت إلى الحكم من جديد في شهر آذار1815 قبل أن يتكبد هزيمته النهائية وينتقل إلى منفاه الأخير بعد مئة يوم. أيضا روزفلت عندما أرسى هذا التقليد كان قد تسلم رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وهي تنوء تحت وقع تداعيات أزمة الثلاثينات الاقتصادية التي ارتبطت بالانهيار المفاجئ لقيمة الأسهم ببورصة وال ستريت بنيويورك.
جاء هذا التقليد بعد أن عقد الكونغرس، بدعوة من روزفلت، جلسة استثنائية استمرت مئة يوم دون انقطاع. انتهت الجلسة في اليوم المئة وقد تم تمرير 15 قانونا تمكنت من خلالها الإدارة الأميركية من إعادة بناء النظام المصرفي المنهار بل ورسم ملامح السياسة الأميركية الاقتصادية الجديدة في ذلك الوقت والمسيطرة على العالم اليوم.
لم يكن الوضع آمنا عندما تسلم الشعبوي دونالد ترامب المشعل من أوباما، بل كان ذلك أحد أسباب وصوله إلى الرئاسة، ويؤكد الخبراء أنه لو لا الوضع الذي وصلت إليه السياسة الأميركية في عهد أوباما وقبله جورج بوش الابن، بالإضافة إلى الفوضى العالمية التي ارتبطت بالسياسات الأميركية خلال العقود الأخيرة ما كان ترامب وصل إلى البيت الأبيض.
ميراث ترامب
يقول ماثيو كرونيج إنه لقياس مدى نجاح السياسة الخارجية لأي رئيس يجب مشاهدة ما حققه الرئيس الذي سبقه من نتائج وفي حالة إدارة ترامب نجد أن فرصتها ضعيفة. ترك أوباما وضعا أكثر خطورة وسوءا في أوروبا وآسيا وفي الشرق الأوسط من ذلك الذي ورثه هو عام 2009، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية تعيد روسيا رسم خارطة أوروبا تحت تهديد السلاح، وفي القارة الآسيوية صادرت الصين الأراضي المتنازع عليها من قبل حلفاء الولايات المتحدة.
واتبعت إدارة أوباما سياسة "الصبر الاستراتيجي" مع كوريا الشمالية. ووفقا لتقديرات الخبراء، تمتلك مدينة بيونغيانغ الآن ما يصل إلى 21 صاروخا حربيا وهي في طريقها أيضا للحصول على قذائف نووية يمكن أن تضرب بها الولايات المتحدة. وتبقى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أسوأ إخفاقات إدارة أوباما حيث أشرفت على تفكك المنطقة بالكامل وصعود تنظيم داعش، وفشلت في العراق وليبيا وسوريا واليمن. كما فشل أوباما في ردع إيران وصد دعمها للجماعات الإرهابية.
وعلى الرغم من أن الاتفاق قلّص من النشاط النووي لإيران، إلا أنه خلق مشكلة خطيرة للرؤساء الأميركيين المستقبليين الذين سيتعين عليهم معرفة ما يجب القيام به عندما تنتهي صلاحية هذا الاتفاق خلال عقد من الزمان.
تركت السنوات الثماني الماضية في كل منطقة من مناطق العالم الهامة للولايات المتحدة أعداء وحلفاء متوترين وفوضى عارمة. قد تكون البيئة الدولية الحالية أسوأ ما يمكن مواجهته لأي رئيس جديد منذ الحرب الباردة، ولكن ربما تسمح تلك الظروف لترامب بتحسين موقف الولايات المتحدة بشكل كبير. ويرى كرونيج أن نجاح ترامب في أن يضع الأشخاص المناسبين في المناصب سيجعل إدارته قادرة على تصويب هذا النظام المتقلب.
ويضيف أن الكثير من التصريحات حول السياسة الخارجية المثيرة للجدل التي أدلى بها ترامب فور توليه الرئاسة تتناغم في الواقع بشكل كبير مع السياسة الأميركية. وإن كان ترامب قد كسر بعض التقاليد من خلال تصريحاته، فقد فعل ذلك في الكثير من الأحيان بدافع تعزيز الحاجة إلى التغيير.
لا يمكن للرئيس أن يتنبأ بجميع أزمات السياسة الخارجية التي سيواجهها، ولكنه بالطبع يستطيع أن يختار فريق العمل الذي سيقف بجانبه ويدعمه كما وعد ترامب خلال حملته الانتخابية، فقد جمع فريقا من "أفضل وأمهر" ما يمكن للولايات المتحدة أن تقدمه.
يأتي في المرتبة الأولى وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر الضابط العسكري الأكثر نفوذا من بين ضباط جيله، وهما ليسا فقط قائدين استثنائيين، ولكن لهما أيضا رؤية استراتيجية بعيدة المدى. أما وزير الخارجية ريكس تيلرسون فقد شغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل النفطية لأكثر من عقد من الزمان.
بالدوران حول طاولة مجلس الأمن القومي نتعرف على مجموعة أخرى من الساسة المتميزين نذكر منهم نائب الرئيس مايك بينس، والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هالي، ومدير المخابرات الوطنية دان كوتس، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو، وبريان هوك الذي عُيّن مدير إدارة السياسات في وزارة الخارجية وجون هانتسمان وهو حاكم ولاية يوتا السابق ومرشح ترامب كسفير في روسيا، حيث كانا من ذوي الخبرة ويحظيان باحترام كبير كموظفين للخدمة العامة.
لا ينفي ماثيو كرونيج أن فريق ترامب المميز، مثله مثل أي إدارة جديدة له بعض الأخطاء، من ذلك أنه عمل على موضوع حظر السفر إلى الولايات المتحدة بشكل غير منظم، وهو خطأ غير مبرر كان دافعه تعزيز أمن الحدود وإصلاح نظام الهجرة.
لكنه يرى أن الفريق كافح للإبقاء على مبدئه. ويبدو أن ترامب بدأ رؤية الصورة بشكل صحيح. يتغير العالم بسرعة ويجب على واشنطن التكيف مع تلك التغييرات إذا أرادت النجاح. وربما تماشي ترامب مع تلك التغييرات قد يحسّن من وضعه، ويضعه في مكان يسهل من خلاله الإشراف على إعادة تنشيط السياسة الخارجية الأميركية.