لم يعد السؤال، هل سيُنتخب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية، وإنما ما هي النسبة التي سيحصل عليها في مواجهة مارين لوبن؟ وكيف ستكون «الجمهورية الخامسة» في عهده طالما أنّه لا يريد الاندفاع لتشكيل «الجمهورية السادسة»؟ وهل يعمل على تجديدها، وكيف؟، أم أنه سيطلق رصاصة الرحمة عليها لأنّه سيتأكد من فشل إخراجها من «غرفة العناية الفائقة»، أو لأنّه سيفشل في الرئاسة، مما يستوجب خوض الفرنسيين تجربة مختلفة عن كل ما سبقها؟!
بدايةً يجب التأكيد على أن كل القوى الفرنسية مصابة بـ«الشيخوخة» و«الوهن»، لذلك ربح ماكرون القادم من خارجها، ويبدو أن ماكرون فهم ذلك باكراً كما قال الرئيس فرنسوا هولاند في إحدى جلساته الضيّقة: «لأنّ ماكرون من خارج الحياة السياسية التقليدية فقد فهِمَ أنّ الأحزاب الحاكمة ولّدت نقاط ضعفها بنفسها، وفقدت جاذبها الخاص وباتت بالية ومُتعبة وهرمة».
فرنسوا هولاند، الذي حدّد وضع القوى السياسية بما فيها حزبه «الحزب الاشتراكي»، سارع لإنقاذ
نفسه، فامتنع عن الترشح. أدرك هولاند الذي تولى سكرتاريّة الحزب لأكثر من عشر سنوات، أنّ الانهيار فيه عضوي وليس سطحياً. لهذا لم يرد أن يتحمّل شخصياً هذه الخسارة التاريخية رغم أن شعبيّته بين كل رؤساء الجمهورية الخامسة كانت الأقل. اكتفى هولاند بدفع ماكرون الى الأمام بعدما رأى فيه «ذئباً سياسياً» لا يتراجع.
بنوا هامون كما وصفه الخبراء بعد حصوله على أقلّ من 6,5 في المئة وهي النسبة الأقل في تاريخ الحزب الاشتراكي منذ نصف قرن بـ«المرشّح الشهيد». لم يكن يستحق هامون هذه الهزيمة القاسية، لأنّ الحزب كان مريضاً حقيقياً. الآن بعد انكشاف عمق مرض الحزب لا بدّ من مراجعة حقيقية وواسعة وشاملة، للعمل على إعادة بنائه من جديد وعلى أسس جديدة.
لم يعد الزمن الجديد يتحمّل حزباً بـ«حركات» عدة يسهل تشتّتها نتيجة للمزاحمات والمنافسات. في جميع الأحوال هزيمة هامون ستكتمل مع الانتخابات التشريعية القادمة.
«اليمين الجمهوري» الذي تلقى «ضربة قاضية» مع فشل فرنسوا فيّون الذي بعناده جرّ الحزب الى الهاوية. يُقال في باريس إنّ إعلان هزيمة «الحزب الجمهوري» تشكلت مع إبعاد آلان جوبيه واكتملت مع الكشف عن فساد فيون بعد الفضيحة التي أطلق عليها pinelopegate التي تمثلت بحصول زوجته مع ولديها على رواتب غير شرعية في مكتب فيون النائب. الآن مهمة العاقلين في الحزب وأبرزهم فرنسوا باروان، الحؤول دون انقسامه قبل الانتخابات التشريعية فينضمّ الى الحزب الاشتراكي في وجوب إعادة بنائه على أسس جديدة. باختصار أزمة اليمين الجمهوري ستكون طويلة الى حين ولادته الجديدة بصيغة جديدة، وبقيادة حديثة.
جان لوك ميلانشون الذي استهوى خطابه الشباب أثبت بالنسبة العالية التي حصل عليها (حوالى 19,5 في المئة) أنّ الفكر اليساري المتشدد ما زال مزروعاً في قلب المجتمع الفرنسي، وأنّه قادر على تجديد نفسه بحيث يكون حاضراً كبيراً من دون أن يتحوّل الى «قبطان» السفينة الفرنسية.
تبقى «الجبهة الوطنية» من بين القوى القديمة. لقد ربحت الجبهة وخسرت في الوقت نفسه. «الجبهة» التي تمثّل اليمين المتطرف ربحت في التحوّل الى مكوّن أساسي في السياسة الفرنسية. سنة بعد سنة نجحت في قضم المواقع حتى تحوّلت الى قوّة ثانية في البلاد، وهي مؤهّلة الآن أكثر من أي وقت مضى لأن تمتلك كتلة برلمانية مهمة تجعل صوتها مسموعاً، ويتوجب التعامل معه بحذر وببرامج عملية قادرة على جذب الفرنسيين وإبعادهم عن «الجبهة» واليمين المتطرف وتقريبهم من التشكيلات الجمهورية.
أما مرشّحة هذا اليمين المتطرّف مارين لوبن فإنها خسرت أولاً أن تكون الأولى فحلّت في المركز الثاني. الأهم من ذلك أن خطابها عن الإرهاب وبثها للرعب في أوساط الناخبين الفرنسيين قد فشل فشلاً ذريعاً. فهي لم تنجح أبداً في كسب المزيد من أصوات الفرنسيين لا بل خسرت نسبة كثيرة منهم. يؤكد هذا أن الفرنسيين يتابعون ويعرفون كيف يقترعون بالارتكاز على مواقف وليس على شعارات. نجاح مارين لوبن مخيف ويُخيف. يجب انتظار الانتخابات التشريعية لمعرفة حقيقة قوّتها الشعبية بدقة، وكيف ستترجمها سياسياً في ظل واقع خطر وصعب قابل للتطور أكثر مما هو متّجه نحو الانحسار. المهم أن كل القوى السياسية اتّحدت ضدّها ونادت بالاقتراع لماكرون مُسقطة بذلك تحفظاتها عليه.
يبقى إيمانويل ماكرون الرئيس القادم، الذي يمكن أن يُوصف كما وصف من قبل وتبيّن أنّه واقعي، أي: «الصاروخ» و«الذئب» الشاب، ماكرون الذي سيكون أصغر رئيس للجمهورية (39 سنة). يمكنه أن ينجح في الرئاسة كما نجح في الانتخابات فيدخل التاريخ، ويمكن أن يتدحرج مثل «كرة الثلج» ويصبح تجربة خاسرة سيدفع الفرنسيون ثمنها الفادح.
إيمانويل ماكرون وصف نفسه بأنّه «محارب ومقاتل» وأنّه «ليس رجل ندم وأسف». جاء من القطاع المصرفي الى الإدارة في الإليزيه ليصبح خلال عامين وزيراً للاقتصاد ثم مرشحاً للرئاسة. عام 2016 كان شبه مجهول حتى أطلق حركته الى الأمام فانضمّ إليه حوالى مائتي ألف مناصر معظمهم من الشباب. خلال دراسته في E.N.A معهد الإدارة العليا كما الأغلبية المطلقة لرجال السياسة والإدارة في فرنسا، كتب أطروحته الأولى بعنوان «مكيافيلي» والثانية «هيغل»، هذان العنوانان يلوّنان شخصيته بالبراغماتية ورؤية الدولة القوية بكل الطرق. برنامجه حتى فوزه يقوم أساساً على عدم إسقاط «الجمهورية الخامسة» وخفض ثلث عدد النواب والشيوخ وتجديد مليون منزل متضرّر والنهوض بالطبقات الوسطى المنسيّة. بهذا كسب الكثير من المحتجين والمتضررين من الفرنسيين، مشكلته أنّه لا يمكنه الاعتماد على اليسار ولا على اليمين، لديه رأس حربة من الشباب. السؤال هل يؤمّن له ذلك ربح الانتخابات التشريعية المقبلة قريباً، يساعده في ذلك القادمون من الحزبيين الى «قطاره» الرئاسي؟
فرنسا ستمر في مرحلة صعبة مليئة بالاختبارات والامتحانات الدقيقة وسط عالم يغلي حيث لا يمكن كثيراً الاعتماد فيه على الحليف الأميركي. أمر واحد مؤكّد أنّ أوروبا ارتاحت لعدم الدخول في عصر اليمين المتطرّف ولا الشعبوي، وفرنسا أثبتت أنها تملك الأفكار للخروج من متاعبها ومآزقها.