في مستوى متقدم عما كان عليه الحال في عهد الإدارة الأميركية السابقة، بدأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهة ما تسميه تمدد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، ويأتي هذا التوجه في ظل مؤشرات أميركية جديدة برزت خلال المئة يوم الأولى من حكم ترامب، وكان ترامب قد أدرجها في أسس خطابه الانتخابي حيال السياسة الخارجية، لا سيما انتقاده للاتفاق النووي الذي أبرم بين الدول الكبرى وإيران، والذي وضعه أخيرا على طاولة البحث والدرس لتقرير إن كان نزع العقوبات الأميركية عن إيران يهدد أمن الولايات المتحدة ويزيد من خطر المشروع النووي الأميركي.
في هذا السياق اعتمدت إيران منذ انتخاب ترامب سياسة ضبط التصريحات والمواقف لمسؤوليها الاستعراضية ضد واشنطن، بخلاف ما كان عليه الحال في عهد الرئيس باراك أوباما، لكنها في المقابل بدأت محاولة إطلاق رسائل يمكن وصفها بالتهويلية وتحاكي إلى حدّ ما مواقف واشنطن كما تتم قراءتها من جهات تصنف في حلف الممانعة الذي تتقدمه إيران في المنطقة.
الجولة الاستعراضية التي نظمها حزب الله للإعلاميين على الحدود اللبنانية مع إسرائيل واستعرض من خلالها قدراته على مواجهة أي عدوان إسرائيلي، تشكل خرقا للقرار 1701، باعتبارها تمت في منطقة عمل القوات الدولية (يونيفل) ويمكن وصفها بأنها رسالة إيرانية من الجنوب اللبناني، مفادها أن أي حرب تشن علينا لن تحصل في أرضنا بل خارج أرضنا وأن الجنوب إحدى جبهات الحرب.
وكما أن واشنطن تعتمد سياسة التهويل فإن إيران أيضا تعتمدها، فطهران توجه رسائل لكن إلى أي مدى هي جادة أو قادرة من خلال حزب الله على فتح جبهة مع إسرائيل اليوم؟ سياسة حافة الهاوية أجادتها إيران، لكن القاعدة المنطقية تقول أيضا إن نجاحها في هذه السياسة سابقا لا يعني أن السياسة نفسها يمكن أن تنجح في مرة لاحقة.
فثمة إجماع على أن ترامب شخصية جريئة بل متهورة، وهو لا يعير الكثير لحسابات الربح والخسارة، فعملية ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة كانت أساسا طرفة ومغامرة، لكنها صارت حقيقة وصار رئيسا. وفي سياق الموقف من إيران فإن أولويتين حددهما ترامب لسياسته، أولا أميركا الأقوى اقتصاديا، وثانيا إعادة الهيبة لأميركا. فيما إيران التي استنزفت طاقاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الأيديولوجية، تبدو أمام خيارات صعبة إزاء التحديات التي تطرحها واشنطن عليها، خصوصا أنها بدأت تلمس أن دولا عربية كالأردن ومصر بدأت تتحول إلى دول في الصف المقابل لإيران، بسبب الموقف الأميركي المستجد.
في الزاوية اللبنانية تبدو واشنطن متجهة نحو مزيد من فرض العقوبات المالية على حزب الله، كما بات معروفا فإن تشديد الإجراءات على المصارف اللبنانية يتخذ بعدا يتمثل في إصدار قوانين جديدة في الكونغرس الأميركي تستهدف التضييق على حزب الله، على أن الجديد هو تسريب معلومات عن عقوبات جديدة ستفرض على شخصيات تنتمي إلى أحزاب حليفة لحزب الله ومنها حركة أمل والتيار الوطني الحر، وجاءت زيارة وفد لبناني رسمي إلى واشنطن قبل أسبوع لبحث مسألة العقوبات والذي ضم قريبين من رئيس الجمهورية ميشال عون وإلى الرئيس نبيه بري غايته إقناع الإدارة الأميركية بتحييد حركة أمل والتيار الوطني الحر عن لائحة العقوبات الأميركية الجديدة على حزب الله.
وبحسب المعلومات فإن أعضاء الوفد اللبناني في لقاءاتهم مع مسؤولين في الخزانة الأميركية، ركزوا على محاولة الحدّ من أضرار العقوبات على القطاع المصرفي من جهة، ومحاولة إقناع المسؤولين الأميركيين بعدم شمل العقوبات لجهات سياسية لبنانية من جهة ثانية. وفي هذا السياق تشير المعلومات إلى أن الخزانة الأميركية أخذت بعين الاعتبار ما تقدم به الوفد اللبناني، في ظل وعود أميركية بأن تتم عملية الحدّ من العقوبات بقدر التزام لبنان بقواعد جديدة في التعامل المالي والمصرفي مع حزب الله.
في هذا السياق جاءت الرسالة الإعلامية لحزب الله من الحدود مع إسرائيل، والرد من رئيس الحكومة سعد الحريري الذي قام مع قائد الجيش بجولة على الحدود مؤكدا التزام لبنان بمقتضيات القرار الدولي 1701، ولعل طريقة تعامل حزب الله مع الموقف الرسمي اللبناني والتي لم تظهر أيّ غضب أو اعتراض كما كان الحال في السابق تظهر أن حزب الله كما إيران في أزمة غير مسبوقة.
أزمة إيران وحزب الله تظهر أيضا في الانتقال من خطاب النصر الإلهي إلى خطاب عصر الظهور. فحزب الله عندما يكون في حالة زهو وانتصار، لا نجده يتحدث عن قرب ظهور الإمام المهدي، بل نجده يبالغ في الحديث عن الانتصارات الإلهية، أما عندما يكون في وضعية غير مريحة نجده يستحضر خطاب المهدوية وعصر الظهور.
ممثل المرشد الأعلى علي خامنئي لدى الحرس الثوري علي سعيدي، أكّد في تصريح لموقع الحرس الثوري الإيراني الرسمي قبل أيام أنّ الثورة الإسلامية قد هيأت الساحة لظهور الإمام المهدي وتعد المرحلة الأخيرة قبل ظهوره. مضيفا “هناك طرفان يعملان على منع ذلك هما أميركا من جهة، والليبراليون والعلمانيون في إيران من جهة ثانية”.
وهذا الخطاب الذي يجد صداه في لبنان يضيف إليه أحد الكوادر القيادية التوجيهية داخل حزب الله مالك وهبه الذي نشر على صفحته قبل يومين “أراجع تاريخنا منذ بدء عاشوراء فلا أجد، ومن دون أي مبالغة، زمانا أفضل من زماننا على مستوى تهيئة الظروف الفضلى لاستقبال الإمام الحجة وظهوره. لقد احتاج الأمر إلى ما يزيد الألف وثلاثمئة عام كي تتهيأ مثل هذه الأمة ومثل هذه الظروف. وأقول سيدي يا صاحب الزمان إن لم يكن، سلام الله عليك، هذا هو أوان الظهور فمتى يكون؟” وأردف قائلا “إذا لم يتم الظهور في هذا العصر فإن الظهور سيتأخر إلى بعد ألف عام”.
يمكن ملاحظة مما تقدم أنه عندما يبرز الخطاب الديني ويتقدم فهو في غالب الأحيان يأتي استجابة لقلق لدى القاعدة الأيديولوجية والشعبية، فالعقيدة المهدوية وظيفتها اليوم بمعيار الأيديولوجيا الإيرانية أن تعالج هذا القلق وتخفف منه. المهدوية هي عقيدة طوباوية يجري استخدامها اليوم من قبل هذه الأيديولوجيا كما استخدمتها سلطات سابقة في التاريخ، أي استحضار المستقبل بغاية مصادرة الحاضر الذي لا تجد هذه السلطات إجابات على تحدياته، إلا بالذهاب إلى الطوباوية.
الملف الإيراني هو ملف جدي في دائرة القرار الأميركي، وهو نحو مزيد من احتواء إيران أي مزيد من العقوبات، وأميركا لن تلجأ إلى المواجهة العسكرية قبل استنفاد كل الوسائل الأخرى وهي تدرك أن العقوبات هذه هي مما جعل إيران توقع الاتفاق النووي وتقدم من خلاله تنازلات سيادية لجهة مراقبة برنامجها النووي.