الصمت الاسرائيلي محيرٌ ومقلقٌ في آن. هو ليس من عادات إسرائيل ولا من طقوسها السياسية، لاسيما إذا توافرت لها هناك فرصة مغرية لإطلاق ماكينتها الدعائية، وأدواتها الاعلامية لكي تثير العالم وتغوي الرأي العام بصورة الضحية التاريخية، وفكرة الدولة المهددة من قبل جيرانها الارهابيين.
لم ينبس أي مسؤول او سياسي او كاتب او حتى مذيع إسرائيلي ببنت شفة تعليقاً على العرض العسكري والاعلامي لحزب الله الخميس الماضي على خط الحدود اللبنانية الجنوبية، الأول من نوعه منذ حرب العام 2006، والذي إنتقدته قيادة القوات الدولية في الجنوب في بيان رسمي إصدرته وتضمن لوماً نادراً للجيش اللبناني، وإعتبرته إنتهاكاً صريحاً لقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1701..
السكوت ليس حكمة مستجدة من جانب إسرائيل التي سبق ان ملأت الدنيا صراخاً، وتقدمت بشكوى الى الامم المتحدة، وطلبت إجتماعاً عاجلاً لمجلس الامن وتدخلاً أميركياً وأوروبياً مباشراً ، ردا على "إنتهاكات" للقرارات الدولية أقل أهمية من ذاك الذي سجل يوم الخميس الماضي على الجبهة مع لبنان، والذي حفل بالرموز والدلالات المثيرة لقراءات ودراسات وتحليلات إسرائيلية لا تنتهي.
كان من المألوف عليه من جانب العدو الاسرائيلي أن يطلق العنان لخطابه الدعائي الجاهز ضد حزب الله، وأن يشرع في سلسلة من عمليات التقييم الدقيقة والمفصلة، لمقاتلي الحزب وأسلحتهم وأجهزتهم وأعمارهم ولهجاتهم..وان يغوص في شرح الخبرات التي إكتسبوها من مشاركتهم في معارك الحرب السورية، وفي تقدير المخاطر الجديدة التي يمثلها إنتشارهم العلني والمفاجىء على الشريط الحدودي الشائك، وتحدثهم بلغة واثقة واضحة ومختصرة.
ثمة سلوك إسرائيلي مختلف، لعله لا يشاطر قيادة اليونيفيل تقييمها النقدي ، ولا يفهم شعور الكثيرين من اللبنانيين الذين هالهم الظهور العسكري لحزب الله على الحدود وحاروا في تفسير مغزاه (الردعي المعلن).. ويرى أن ما قام به الحزب مجرد تقليد طبيعي للعراضات العسكرية التي يقوم بها بين الحين والاخر كبار المسؤولين الاسرائيليين مع قادة الجيش الاسرائيلي على الجبهة الشمالية، مع إضافة تفصيل بسيط وهو أن حزب الله "طمأن"، الاسرائيليين لا سيما المقيمين في الشمال، الى أنه لا ينوي الحرب ولا يتمناها، و شرح لهم بشكل وافٍ ما تقوم به حكومتهم برئاسة بنيامين نتنياهو من أعمال بناء مكثفة لتحصينات ومواقع مراقبة متطورة لحمايتهم من أي هجوم يُشن من الجهة اللبنانية.
لهذا السبب ربما، لم يكن هناك من داعٍ لأي كلام رسمي أو سياسي من جانب إسرائيل، كان يمكن أن يتسبب في إشعال حرب كلامية تصل الى حد تبادل التهديدات المباشرة، ما من شأنه ان يسبب التوتر لدى الجمهور الاسرائيلي، ويزيد من إسئلته الخافتة حول موعد الحرب المقبلة، التي لا يكلّ المسؤولون الاسرائيليون عن التأكيد على أنها حتمية وقريبة..ولولا الصاروخ "الطائش"الذي إنطلق من مواقع سورية بعد ساعات فقط على تظاهرة حزب الله الحدودية، في إتجاه الجولان السوري المحتل، والغارات الاسرائيلية التي أعقبته، لما كان هناك في اليومين الماضيين ما يستحق الذكر في وسائل الاعلام الاسرائيلية من إخبار الجبهة الشمالية.
الصمت الاسرائيلي أمام ما فعله حزب الله على الحدود ، ليس دليلاً كافياً على وعيٍ مختلف أو ميلٍ مفاجىء نحو التخلي عن العدوانية التي لطالما حكمت التعاطي مع لبنان. لعله مجرد هدوء متعمد يسبق عاصفة آتية.. تتساقط موانعها تباعاً في كل من تل أبيب ودمشق وطهران وواشنطن وموسكو، وتتحول الى حاجة مشتركة لدى العواصم الخمس، التي باتت تنظر الى جبهة الجولان بإعتبارها مؤشراً دقيقاً للصراع على سوريا، وتحيل الجبهة اللبنانية الى وظيفة سياحية لا تشغل البال.