لذلك بدا تنظيم «داعش» متمسّكاً بتنفيذ عمليات إرهابية قبَيل الدورة الأولى، وهو ما يُرجّح حصولَ اعتداءات إرهابية أخرى قبل الدورة الثانية في 7 أيار المقبل.
وفيما نجَحت السلطات الفرنسية في اكتشاف وإجهاض اعتداءات حضَّر لها التنظيم الإرهابي، إلا أنّه نجَح في تنفيذ عمليته الأخيرة في الشارع الأشهَر في العالم بهدف إحداثِ أكبر ضجّة ممكنة، ولو أنّ عدد الضحايا لم يكن كبيراً. وهو سارَع إلى تبنّي العملية عبر بيانات بلغات متعدّدة للاستفادة القصوى منها.
لكنّ اللافت موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي سارَع فور حصولِ الاعتداء إلى التعليق عليه مستبقاً ردود الفعل ومواقفَ المسؤولين الفرنسيين أنفسِهم، وهو غرَّد مندّداً ومتوقّعاً بأنّ هذا العمل سيؤثّر على الانتخابات الفرنسية.
في الحقيقة بدا الرئيس الأميركي متمنّياً وصولَ أحدِ المتطرفين، وهو حاوَل الدفعَ في هذا الاتجاه. وقد ظهَر أنّ ترامب ما زال يراهن على تفكّكِ أوروبا الموحّدة، ومعه على زوال حلف شمال الأطلسي.
وهو كان قد أوحى بذلك مع وصوله المثير إلى الرئاسة، ولكنّه عاد وعدّلَ في موقفه بعد موجة الانتقادات الحادّة التي تعرّضَ لها إنْ من الدول الاوروبية أو حتى من المؤسسات الأميركية والرأي العام المؤثّر، ليعلنَ بعدها وزيرُ الدفاع جيمس ماتيس حاجة بلاده لاستمرار وتطوير حلف شمال الأطلسي.
لكنّ ردّ فِعل ترامب السريع والمريب إزاء اعتداء الشانزليزيه أعاد المخاوف السابقة، ذلك أنّ مارين لوبن وجان لوك ميلينشون، كلاهما وضَعا في صلب برنامجهما الخروج من الاتّحاد الأوروبي.
وفي المقابل، بدت العواصم الأوروبية قلِقة من مسار الانتخابات الفرنسية، وهي نفّذت حملة مضادّة عقبَ الهجوم الإرهابي، هدفَت إلى الإضاءة على مخاطر وصول المرشّحين المتطرّفين، وشاركت في هذه الحملة صُحف بريطانية مِثل «الإندبندت».
ولكن أياً يكن المنحى الذي سيَحكم الدورة الثانية، إلّا أنّ المنحى التقليدي للسياسة الفرنسية على طريق الأفول. فقد أثبتَت هذه الانتخابات نهاية الأحزاب التقليدية التي كان لها الفضلُ تاريخياً في صناعة المرشّحين وضمان الأغلبية لهم.
فالطبقة العمّالية التي كانت تذهب تقليدياً إلى اليسار باتت تميل إلى الجبهة الوطنية أو اليسار الراديكالي، فهي باتت تعتبر الاعتدالَ السياسي ضعفاً.
أمّا الطبقة المتوسطة والتي تُعتبر ضمانة استقرار المجتمعات، والتي تغلب عليها عادةً التوجّهات المعتدلة، فباتت في جانب أساسي منها في خانة المتردّدين، وهي حتى لو عادت وحسَمت أمرَها لصالح المرشّحين المعتدلين لكنّ وَصم قسمٍ منها بالتردّد يؤشّر للكثير.
وعلى المستوى العالمي، خصوصاً على مستوى أوروبا والشرق الأوسط، يبدو القادة المستبدّون في صعود، والديموقراطيات تدخل دائرة الخطر.
فبعد أن وضَعت الحرب العالمية الثانية أوزارَها ظهر صراع الحدود بين الدول، وتلا ذلك إنشاءُ المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، لتنظيم عمل الدول تحت رعاية الجبّارَين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، اللذين خاضا حرباً باردة ولكن وفقَ خطوط حمرٍ صارمة ولعبةٍ ممسوكة بالكامل.
زوال الاتّحاد السوفياتي والفراغات التي ظهرت والتشجيع الذي مارسَته واشنطن أنتج صراعاً آخر طابعُه مذهبي وديني، بحيث إنّ أدوات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تعُد صالحة لإدارته ومواكبته وضبطِه، ويجب الاعتراف بأنّ حرب سوريا غيّرَت العالم.
بعد الضربة الأميركية لمطار الشعيرات توافقت دمشق وموسكو على وضعِ معظم الطائرات الحربية السورية تحت حماية روسيا في قاعدة حميميم الجوّية جنوب اللاذقية، ونشرَت القوات الروسية أنظمة دفاع صاروخي مضادّة للطائرات كإجراء وقائي، وبذلك أمسَكت روسيا أكثر فأكثر بأوراق الميدان السوري، وهو ما ترتاح له واشنطن كون التفاوض مع موسكو أسهل بالنسبة لها، أضِف إلى ذلك أنّ مساحة نفوذ روسيا داخل سوريا أصبحت أوسعَ بكثير من مساحة نفوذ إيران، لكن هذا لا يغيّر الكثيرَ على مستوى الميدان، حيث يجمع الرئيس السوري المعارضين في إدلب تمهيداً لمعركة نهائية فيها.
لكنّ ترامب المرتاح لإمساك بوتين أكثر فأكثر بمفاتيح الساحة السورية، يسعى لترتيب تسويةٍ سياسية إلى جانب الساحات الأخرى في المنطقة على نار «داعش».
ففي واشنطن كلام جدّي عن وجود فكرة للقاء يَجمع بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس، في العاصمة الأميركية وبرعاية مباشرة من ترامب. لا بل يتردّد أنّ عباس وافقَ على اللقاء في المبدأ بشرط تجميد الحكومة الإسرائيلية خطة البناء الاستيطاني.
وربّما لذلك يركّز «داعش» في عملياته الإرهابية على مصر التي سيكون لها دورٌ أساس في التسوية السلمية، في وقتٍ تهمس فيه الأوساط الديبلوماسية الأميركية عن وجود خيوط تواصُل بين مجموعات «داعش» في سيناء وحركة «حماس» المتوجّسة من التسوية التي تطرَحها واشنطن.
والهجوم الذي نفّذته خلية لـ»داعش» على دير سيدة كاترين، رغم الفشل الذي أصابه، يؤكّد نجاح «داعش» في التوغّل في أعماق جنوب سيناء، وهو توغّلٌ يَصعب على التنظيم أن ينجح به من دون مساعدة محلّية قوية، وهو جاء بعد تسعة أيام من الهجوم على كنيستَي طنطا والإسكندرية وقبَيل زيارة قداسة البابا في 28 الجاري، والذي سيدعو للتعايش والسلام، ما يصبّ في مصلحة التسويات المطروحة في المنطقة. ومشاريع التسويات المطروحة في سوريا وفلسطين تبقى ناقصةً وغيرَ مكتملة إذا لم تشمل جدّياً بالعمق إيران.
خلال الأسابيع الماضية، أرسَلت واشنطن إشارات تصعيدية ضد إيران، ما جَعل البعضَ يراهن خطأً على مواجهة أميركية - إيرانية قريبة. وفي لبنان هناك من راهنَ وذهبَ إلى البعيد كما العادة.
واشنطن طلبَت من سفيرتها في الأمم المتحدة نيكي هايلي التركيزَ على الخطر الإيراني ودور «حزب الله» في توسيع طموحات إيران التوسّعية.
وخلال زيارته للسعودية، وعَد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بتقديم دعمٍ عسكري ضدّ الحوثيين يشمل طائرات بلا طيّار وإرسال المزيد من الخبراء الاستشاريين، رغم أنّ واشنطن تنفي رسمياً وجود خبراء لها على الأراضي اليمنية، لكنّ كلّ التقارير تؤكّد عكس ذلك، وإنّ واشنطن تُحاذر إرسالَ قوات قتالية فعلية، لكنّها في المقابل حضَّت باكستان على إرسال قوى من خمسة آلاف جندي إلى الحدود السعودية - اليمنية في مهمّات دفاعية، وسينتشر هؤلاء إلى جانب 1200 جندي باكستاني موجودين حالياً في السعودية.
لكنّ كلّ هذه الخطوت التصعيدية لا تعكس الهدفَ الفعلي لواشنطن. ففيما ركّز ماتيس خلال زيارته للسعودية على خطر «القاعدة» المتعاظم في اليمن والذي أصبح أكبرَ من خطر «داعش»، فإنّه تحدَّث عن أنّ هذه الخطوات تهدف لإجبار الحوثيين ومِن خلفهم الإيرانيين على الدخول في مفاوضات سلام. وهو قال للصحافيين الذين رافقوه إلى السعودية إنه يتطلع إلى أن تبدأ الأمم المتحدة بالمفاوضات في اليمن لإنهاء الحرب، وهو ما يبدو صعباً في ظلّ الظروف الموجودة.
وفي إسرائيل كان ماتيس أكثرَ وضوحاً تجاه إيران، حيث اعتبر أنّها ملتزمة بشروط الاتفاق النووي، والاتفاق ما زال قائماً، خاتماً كلامه بالقول: «هذا كلّ ما يمكنني قوله».
وهو ما يعني أنّ الضغوط القائمة والمتصاعدة في موازاة الحرب على «داعش» تهدف إلى فرض تسويات في الشرق الأوسط تُنتج خرائط نفوذ جديدة على الأطلال التي خلّفَتها الحروب الدائرة، وتهدف أيضاً إلى واقع دولي جديد انطلاقاً من أوروبا جديدة تقوم على أنقاض أوروبا الموحّدة، والتي تمثّل الانتخابات الفرنسية إحدى محطاتها، وعلى أساس أنّ ما يَجري في فرنسا هو مثال صارخ عمّا يدور في الاتحاد الأوروبي برُمَّته.
هل تنجح خطة تغيير وجه العالم؟ الجواب للأيام المقبلة.