الخبراء العرب والاجانب في الشأن اللبناني كثرٌ، وكذلك المؤسسات العربية والدولية التي تعرف عن لبنان أكثر مما يعرفه اللبنانيون أنفسهم. وهؤلاء جميعا يدركون أهمية بقاء الدولة اللبنانية ووحدتها والحاجة الى تحديثها وتطويرها بما يضمن تخطي الحرب الاهلية، وتجاوز موروثاتها وأعبائها المستمرة.
اللجوء اللبناني الى هؤلاء الخبراء وتلك المؤسسات دائمٌ وثابت، بل هو جزء من تقاليد عمل جميع أجهزة الدولة اللبنانية من دون إستثناء، من العسكر الى الأمن الى الاقتصاد الى الادارة، وصولا الى المحاسبة العمومية التي تراقبها وتصادق على تقاريرها شركات دولية بارزة..بحيث بات يصعب العثور على تفصيل من الحياة اللبنانية العامة لا يخضع لهذا النوع من"التدخل"الخارجي، الذي يسبق في العادة موارد التمويل، سواء كانت على شكل هبات أو قروض تغطي معظم مناحي الاجتماع اللبناني، من الرئاسات الثلاث وحتى أصغر البلديات. هذا "الانتهاك" لما يمكن ان يسمى ب"القرار الوطني اللبناني" ليس جديداً طبعاً ، ولا هو إستثناء بين دول العالم الثالث، التي لم تكن مسلوبة الارادة والسيادة فقط لأن الاجنبي ما زال يحتفظ بذهنيته الاستعمارية وعقيدته الامبريالية، بل أيضاً لأن ثمة خللاً عميقاً في تكوين تلك الدول وفي بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وربما أيضاً في موقعها الجغرافي القاتل.
ولعل لبنان كان من أكثر هذه الدول عرضة للتدخل الخارجي، بسبب العيوب الجوهرية في تشكيله الوطني الاول، الذي كان ولا يزال يستدعي هذا التدخل أكثر مما كان يقاومه أو يعمل على تجاوزه، حتى ترسخ في الاذهان وفي الواقع أنه ما زال منذ القرن التاسع عشر "دولة قناصل" ليس إلا، ينشد الخارج ويغويه لمد يد العون في الصراع الدائم بين الطوائف والمذاهب، بل حتى بين أبناء البلدة او القرية او العائلة الواحدة.
في الظرف الراهن يواجه لبنان معضلة حقيقية لم يسبق لها مثيل في تاريخه. هو ينادي على التدخلات الخارجية لكنه لا يجد مستجيباً واحداً . يتلقى المساعدات العسكرية والامنية والاقتصادية والاغاثية للاجئين السوريين، لكنه لا يلقى الدعم الذي تتوسله قواه السياسية من أجل تحقيق الغلبة في السلطة والنفوذ والمغانم.. ولا يسمع سوى النصح الفارغ بالحفاظ على الامن والاستقرار والابتعاد قدر الامكان عن البركان السوري المتفجر.
ولأن التدخل السياسي الخارجي شبه معدوم الان، يجد لبنان صعوبة جدية في صون فكرة الدولة وحماية مؤسساتها وأجهزتها ، وفي تنظيم العلاقة بين الطوائف والمذاهب.. ويقف عاجزاً عن صياغة قانون إنتخابي معقول، بوصفه واحداً من أهم شروط الاستقرار الوطني، وعنواناً رئيسياً للخروج من تجربة الحرب الاهلية الاخيرة وجذورها الراسخة في النصوص والنفوس، برغم الخبرات اللبنانية العريقة فعلاً، والتي سبق ان واجهت مثل هذا التحدي، وقدمت مشاريع قوانين متقدمة حقاً ، ما زالت موضوعة في الادراج، ومرفوضة بناء على شبهات او وشايات او نكايات ليس إلا.
لكن ثمة مخرجاً من هذا المأزق. قد يبدو جنونياً ، لكنه جدير بالتأمل، لكبح الاستنفار الطائفي والمذهبي الذي يتسع يوماً بعد يوم: بما أن هناك تسليماً عاماً بان القوى السياسية الحالية غير قادرة ، وغير مؤهلة فعلاً، لإعداد قانون إنتخابي عادل ومتوازن، فلا ضرر من الاستعانة بخبراء محايدين، غير لبنانيين، او مؤسسات ومراكز أبحاث محايدة، غير لبنانية طبعا ، ذات خبرة ودراية بالشأن اللبناني، لصياغة مثل هذا القانون، مقابل بدل مالي محدد، يوفر الكثير من التوتر والجهد والمال الذي يزال يهدر منذ أن توقف التدخل الخارجي في الداخل اللبناني. والارجح أن لدى هؤلاء الخبراء وتلك المؤسسات وثائق ومعلومات تفصيلية ليس فقط عن الطوائف والمذاهب وتكاثرها وتوزعها الجغرافي وموقعها الاقتصادي وترتيبها الاجتماعي والثقافي، بل أيضا عن العشائر والعائلات وتقسيماتها السياسية، فضلا عن الاحزاب والتيارات والحركات السياسية وخطاباتها وبرامجها.. بحيث يمكن لهؤلاء الخبراء او تلك المؤسسات ان تعرض تقديرا علمياً دقيقاً للديموغرافيا اللبنانية حتى نهاية القرن الحالي، وتقدم قانوناً إنتخابياً عادلاً يمكن أن يصلح لعقود وأجيال عديدة.
صحيح أنه لن يكون من السهل إقناع القوى السياسية المتربصة الآن على خطوط التماس الطائفية والمذهبية والعشائرية، بإعتماد ذلك الخيار العلمي، العاقل.. لكن العودة الى الوراء لن تكون أسهل، والفراغ لن يكون أهون، أو أقل كلفة من التخلي عن بعض من السيادة اللبنانية الافتراضية.