انقلب رجب طيب أردوغان على الجمهورية الأتاتوركية بالاستفتاء لا بدبابات ولا بثورة شعبية، صحيح أنه فاز بغالبية ضئيلة لكنه سيستند إليها، مهما طعن الطاعنون، لإنجاز الجمهورية التركية الثانية ذات النظام الرئاسي والأيديولوجية الإسلامية المستندة إلى الحلم العثماني، إذ يتجدد بمشاركة الدول والقوميات والأديان والطوائف وليس بالاصطدام بها وتحطيمها.
ويلاحظ أن الرئيسين الروسي والإيراني كانا في مقدّم مهنّئي أردوغان، وخلف التهنئة المتعجّلة وعي بالشراكة التاريخية العميقة، حتى عبر الصراعات، بين الأتراك والروس والفرس في المنطقة الشاسعة من ضفاف البوسفور إلى شمال الصين، ويسمونها أوراسيا على رغم أن مساحتها الأوروبية محدودة وتقتصر على الوجودين الروسي والتركي.
أردوغان في رئاسته القوية، يتشبّه بالقيصر فلاديمير بوتين أو أي قيصر آخر في روسيا المتخفّفة من ثوبها الشيوعي الأوروبي، كما يتشبّه بالمرشد علي خامنئي رأس النظام الديني في إيران والذي لم يقطع، بل يشجع التيار القومي بما يحفظ التقدُّم العلمي والانفتاح على الحداثة، على رغم شعارات النظام الماضوية.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار أردوغان «المرشد الأعلى» في تركيا أكثر مما هو السلطان كما يظن منتقدوه والمتحسّرون على صورة تركيا كنموذج إسلامي حداثي. هو المرشد بصفته مجدّداً لجماعة «الإخوان المسلمين»، أو على الأصح معيداً تأسيس الجماعة على قاعدة التخفُّف من التجربة المصرية الفاشلة بقياداتها الثلاث: حسن البنا الذي أسس «الجماعة» جيداً على الورق، لكنه دفعها في الواقع إلى التصادم مع المدينة المصرية التي كانت أكثر المدن حداثة في الشرق لكونها ضمّت نخباً مصرية وشامية وجاليات أوروبية هاربة من حروب بلادها المتعاقبة، فكان «إخوان» البنا ريفيين يحطّمون كل ما يقع تحت فؤوسهم من مظاهر الحداثة بدعوى البعث الإسلامي. والقيادة الثانية جسّدها سيد قطب المثقّف الذي طوّر العداء ضد الحداثة المصرية إلى رفض الحضارة الحديثة برمّتها في البلدان التي تطاولها أيدي الجماعة، وركّز رفضه على المجتمعات الحاملة «فيروس» هذه الحضارة، فأفتى بتكفيرها وأمر بإعدامها ليبقى على الأرض الإسلام النقي كما يراه. وكان قطب بذلك المؤسس النظري لما يسمى في أيامنا الجماعات الإرهابية. والقيادة المصرية الثالثة لـ «الإخوان» هي الرئيس السابق محمد مرسي الذي قاد بلداً عربياً كبيراً بخفة عمدة قرية معزولة، فبدا مزيجاً من الساذج والسيء الطويّة والمتخلّف والعنيد، كما أن رئاسته فضحت قيادات «الإخوان» المحيطة به فبدوا قصار النظر وانصرفوا إلى حلاوة الحكم لابسين أقنعة التواضع، فيما يضمرون التجبّر والتخطيط لتهميش غير «الإخوان».
ثمة قناعة في المنطقة أن أردوغان سيكون مرشد «الإخوان» في طبعتهم التركية الأكثر ذكاءً والأكثر اعترافاً بإمكان الجمع بين الإسلام والحداثة. وقد يدفع «الإخوان» في مصر والعالم العربي ثمن فرحهم المتسرّع بفوز أردوغان في الاستفتاء، وفي مقدّم هؤلاء «إخوان» مصر المرشحون لدورات إعادة تأهيل أو للطرد فيندرجون في أمكنتهم المناسبة، الجماعات الإرهابية. و «إخوان» سورية المدعوون إلى الإذعان للمرشد التركي فاقدين استقلالية طالما تباهوا بها ومرونة سبق أن أوصلتهم إلى وزارة ورئاسة في عهود سورية المدنية.
ولن يكون المرشد أردوغان معادياً بالضرورة للقيصر الذي يحكم «روسيا المقدّسة» ولا للمرشد الإيراني الذي يرى في نفسه قائداً دينياً عالمياً. ثمة ما يجمع أنقرة وموسكو وطهران هو الوعي بلقاء المصالح وتعارضها في ملعبهم الأوراسي المشترك، والوعي أيضاً بشعوب المنطقة، نقاط قوتها ونقاط الضعف.
محمد علي فرحات