لم تعد المسألة مسألة خلاف حول قانون الانتخاب وحسب، بل هي أصبحت تتصل بطبيعة سلوك الطبقة السياسية، المفتقر الى الكثير من النضوج والمسؤولية. وعليه، فان أخطر ما سيرتبه الفشل المتمادي في انتاج القانون ليس فقط التمديد او الفراغ، وإنما السقوط المدوي لأهلية النظام في ادارة شؤون الدولة وشعبها.
سيكون من المعيب والمهين حقا ألا تستطيع القوى الداخلية التوافق على قانون انتخابي بعد هذا الوقت الطويل الذي استهلكته في التجارب والمحاولات، لان معنى ذلك ببساطة ان الطبقة السياسية مصرة على البقاء تحت سن الرشد الوطني، وعدم مغادرة مرحلة المراهقة في التعاطي مع الشأن العام.
ان الاخفاق المستمر في وضع قانون انتخاب عادل يشكل ادانة صارخة، بالدليل القاطع والجرم المشهود، لهذا الطاقم السياسي الذي بات عليه ان يدرك ان مضيه في العبثية السياسية الى ما بعد حافة الهاوية هو نوع من انواع الانتحار، لا التشاطر.
بناء على ذلك، فان الطريقة الوحيدة التي تسمح للطبقة السياسية بان تنقذ نفسها وما تبقى من سمعتها، تكمن في انجاز القانون قبل نهاية ولاية المجلس الحالي، وإلا فانها ستصاب بالتحلل الطبيعي والتلقائي، إذا كان اسقاطها بالضربة القاضية في الشارع متعذرا، بفعل التوازنات الطائفية الحاكمة.
 هذا «العقم»، لم يعد مقبولا ولا مُحتملا، وهو بالتأكيد لا يليق بشعب قدم التضحيات في سبيل القضايا الوطنية وصنع الانجازات في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، إلا اذا كان المطلوب ان نستعين مجددا بوصاية خارجية، اقليمية او دولية، تتولى تدبير امورنا وتفصيل الدوائر الانتخابية كما حصل في الدوحة عام 2008 وقبلها في عواصم أخرى.
عند انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، بارادة داخلية وازنة نسبيا وبتدخل خارجي أقل، اعتقد كثيرون ان اللبنانيين بدأوا وللمرة الاولى منذ زمن طويل باستعادة المبادرة وتشجيع «الصناعة الوطنية» للقرارات السيادية، وبالتالي كان يفترض ان يُبنى على هذه التجربة لاستكمال حالة «الفطام» عن العوامل الاقليمية والدولية التي اعتادت التحكم بأزرار اللعبة الداخلية.
بهذا المعنى، فان عجز الاطراف المحلية عن التفاهم على قانون للانتخاب سيؤدي الى اعادة انتاج الاحباط الذي سيسري هذه المرة على الجميع وليس على المسيحيين فقـط. والأسوأ ان اي سيناريو كهذا سيضرب مفاعيل انتخاب رئيس الجمهورية الذي سيكون الضحية الاولى للأمر الواقع المُر الآخذ في التشكل.
 

 استراتيجية عون


من هنا، يمكن فهم الحاح عون على ضرورة انجاز القانون ورفضه الشديد لخياري التمديد و«الستين» اللذين ستصيب شظاياهما قصر بعبدا بالدرجة الاولى. وانطلاقا من تلك الاولوية سلك الجنرال، ولا يزال، كل خطوط «المترو السياسي» التي من شأنها ان تقود الى اجراء الانتخابات النيابية، مبديا انفتاحه على اي صيغة يمكن ان تلقى قبولا من القوى الاساسية، سواء كانت «مختلطة» او «تأهيلية» او معتمدة على النسبية الكاملة.
 يتجنب عون- كما يوضح المقربون منه- ان يطرح مباشرة مشروعا باسمه، مفترضا ان هذا ليس دوره كرئيس للجمهورية، لاسيما انه يرى امام عينيه كيف ان المشاريع المقترحة تحترق الواحد تلو الآخر، من دون ان ينفي ذلك انحيازه على المستوى الشخصي الى النسبية التي طرحها قبل انتخابه، وأدرجها في خطاب القسم لاحقا، وخصص لها مكانا في الموقع الالكتروني لرئاسة الجمهورية الذي لا يزال يحوي تغريدات رئاسية عن مزاياها.
ويشدد عون- وفق ما يؤكد المقربون منه ل«الديار»- على ان ما يهمه هو الالتزام بمعيارين محوريين في اي قانون وهما، البعد الميثاقي وصحة التمثيل، وبالتالي فهو يبدي الاستعداد للتجاوب مع اي طرح يحترم هذين الشرطين ويحظى بتوافق وطني.
ويلفت المحيطون بالرئيس الانتباه الى انه سيتدخل لرفع البطاقة الحمراء في وجه اي مشروع يخالف المعياريين المشار اليهما، ولكنه لن يضغط على اي فريق لاعتماد هذه الصيغة الانتخابية او تلك، تاركا للاطراف المتحاورة ان تسعى الى الالتقاء في مساحة مشتركة، تحت سقف الضوابط المحددة.
وعملا بهذه القاعدة، يتفادى عون- تبعا لأوساطه- ان يمارس ضغطا على التيار الوطني الحر او على اي طرف آخر، لاعتماد مشروع بعينه، لكنه يعتبر في الوقت ذاته انه من غير المسوح الاستقواء بموقع الرئاسة من اجل تغليب ارادة على اخرى.
ومع عودة الكلام حول تقدم مبدأ النسبية الكاملة في النقاشات، يوضح المحيطون بعون انه لا يمانع بتاتا في اعتمادها، في حال حصل تفاهم عام حولها، وهو يرى انها من الطروحات الواردة والممكنة، على ان يتم الاتفاق في شأن تفاصيلها وضوابطها ( حجم الدوائر، الصوت التفضيلي..) بين القوى السياسية.
ولئن كان موعد 15 ايار المقبل يشكل محطة مفصلية بالنسبة الى قطار المهل الدستورية، إلا ان اوساط رئيس الجمهورية تعتبر ان بالامكان توسيع الهامش حتى 31 أيار، تاريخ انتهاء العقد التشريعي، متى توافرت نواة توافق على طرح معين.
وتوضح الاوساط انه في حال جرى التفاهم حول صيغة محددة، على حافة هاوية الوقت، سيبادر عون عندها الى فتح دورة استثنائية، بعد 31 أيار، على ان تكون محصورة ببند اقرار قانون الانتخاب.
 

 مشروع التأهيل


وماذا عن مصير مشروع «التأهيل الطائفي»؟ هل سقط كليا تحت وطأة الاعتراض عليه من جهات عدة، ام لا يزال صامدا؟
مصادر قيادية في 8 آذار أبلغت «الديار» ان هذا الطرح بات بحكم المنتهي عمليا، وهو في حالة الاحتضار التي تُمهد لنعيه رسميا، ومن ثم دفنه في «المقبرة الجماعية» للمشاريع الانتخابية، فيما قالت مصادر مقربة من قيادة «التيار الحر» ل«الديار» ان الامر ليس بهذا السوء، مشيرة الى ان الاجتماعات والاتصالات التي تمت امس وامس الاول بعيدا من الاضواء حققت تقدما لامس حد البدء في الصياغة الخطية للاتفاق على بنود القانون المفترض.
وبمعزل عن مدى دقة هذا التقدير او ذاك، بات واضحا ان حجم الرفض للمشروع التأهيلي أكبر من ان يُعالج بتعديلات ثانوية او بوقت قصير، وحتى حزب الله الذي بدا من اوائل الموافقين عليه، تبين لاحقا انه قبل به على مضض ومن دون قناعة كافية، كأنه كان يراهن ضمنا على ان تتكفل معارضة الاطراف الاخرى بالاجهاز عليه، من دون ان يوتر العلاقة ب«التيار البرتقالي». 
 

 جلسة «البياضة»


ومشروع التاهيل الطائفي وُلد خلال لقاء جمع ممثلين عن تيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل والتيار الحر في منزل الوزير جبران باسيل في البياضة غداة اللقاء بين الرئيس عون ووفد حزب الله في بعبدا. في منزل وزير الخارجية، جرى نقاش مستفيض حول التاهيل الطائفي الذي لقي بداية تجاوبا اوليا من معظم الحاضرين مع طلب ادخال بعض التعديلات عليه، خصوصا من قبل نادر الحريري. لكن، سرعان ما تدحرج البحث في اتجاهات اخرى عندما خاض باسيل في ملف مجلس الشيوخ لجهة المطالبة بان يحظى بصلاحيات وازنة وان يتولى ارثوذكسي رئاسته. حينها «تخربطت» الجلسة وانفضت من دون ان يتم التفاهم الرسمي والنهائي على التأهيل. في ما بعد، تعرض مشروع باسيل ل«نيران صديقة» من معراب، كما برزت اعتراضات جوهرية من وليد جنبلاط وأخرى من «المستقبل»، بحيث اصبح صعبا رتق الرقع في الثوب الممزق.
 

 الثنائي الشيعي


امام هذا الواقع، وجد انصار النسبية الشاملة فرصة لتنشيطها وضخ جرعة جديدة من الاوكسيجين في رئتها. ولم يتأخر الرئيس نبيه بري أمس في الاعلان امام نواب لقاء الاربعاء عن عودة هذا الطرح الى التقدم على غيره، علما ان مخيلته السياسية لا تكف عن محاولة ابتكار حلول ترتكز على النسبية.
اوساط الثنائي الشيعي أكدت ل«الديار» ان النسبية الكاملة تبقى افضل الخيارات، لافتة الانتباه الى ان وفد الحزب شرح لرئيس الجمهورية كيف انها تفيد المسيحيين ولا تضرهم، كما تفترض بعض الاجتهادات والتفسيرات.
وتعتقد تلك الاوساط ان الوقت ضاق جدا، الى درجة انه لم يعد ممكنا ربط اقرار النسبية الشاملة بشروط ثقيلة من قبيل تأسيس مجلس الشيوخ والتوافق على صلاحياته وطائفة رئيسه، «خصوصا ان ما يطرحه باسيل على هذا الصعيد يصعب هضمه»، مشيرة الى ان عون سبق له ان ايد النسبية وكذلك فعلت بكركي التي كانت قد قبلت بها على اساس 10 دوائر، «علما ان هناك انفتاحا على مناقشة حجم الدوائر.»
وتعتبر اوساط الثنائي الشيعي ان بالامكان عبر النسبية على قاعدة الدوائر العشرة طمأنة المسيحيين والدروز، لان هذه المعادلة تفضي الى تقسيم كل من المحافظات الخمس الى دائرتين، اي ان محافظة جبل لبنان ستتوزع بين دائرة تغلب عليها الاكثرية المسيحية وأخرى تسودها أكثرية درزية.
ولا تخفي هذه الاوساط خشيتها من ان يكون هدف البعض تقطيع الوقت وصولا الى فرض اجراء الانتخابات وفق قانون الستين بذريعة انه اقل سوءا من التمديد والفراغ.