في ليل العرب الدامس والحزين، ومن خارج المعسكرات والخنادق والتخوم، يثابر أميرُ حكمة عربي، ومازال عربياً حتى العظم، على إشعال قناديل الأمل، لعلها تبعث بعضاً من النور لإضاءة طريق شباب عربي تائه يبحث عن مستقبل وموقع وهوية، وعن حياة كريمة.
غداة انعتاق بلدانهم من الحكم العثماني، منذ مئة عام، كان عدد سكان دنيا العرب 40 مليوناً، وكان يوازي في تلك الأزمنة، 10% من سكان القارة الأوروبية. في عام 1950 تخطى العدد 75 مليوناً ليرتفع في عام 1975 إلى 140 مليوناً وإلى 360 مليوناً في عام 2010. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد في عام 2050 إلى ما يناهز740 مليوناً، متخطياً بذلك عدد الأوروبيين المتوقع في العام نفسه، والذي سيبلغ 734 مليوناً -بما في ذلك المهاجرين من أصول عربية-
رافق هذا التطور المذهل تحولٌ أكثر إثارة في مقومات الحياة المادية. نتج عن تقدم المعرفة والتقنيات الحديثة وعن الثورة الرقمية، فكان لا بد له من دفع الإنسان المعاصر لولوج جدلية العلاقة مع العقل، ومع البيئة والمحيط، ومع إشكالية الزمان والمكان.
هذا الواقع المستجد، شكل انقطاعاً في التاريخ. حيث أن تقدم المعرفة والتقنيات، الذي حصل خلال حياة جيل واحد، تجاوز -في أبعاده المادية على الأقل- أضعاف ما شهدته الصيرورة البشرية طيلة الأجيال المتعاقبة منذ فجر التاريخ. حيث بات من المتعذر مقاربة أي شأن حاضر، بمقاييس وفكر وقوالب الماضي، وبمعزل عن رافد الحداثة وما واكبه من فرضيات على مقومات وجودنا.
من المسلّم به، أن الكون، في استدامته وارتقائه، يتجه نحو المزيد من التعقيد، وأن الحضارة، في جدلية تفاعلاتها وتراكماتها، تنحو للمزيد من الإنفتاح والتآلف والتلاقح، لاحتواء التداعيات الدرامية واللامحدودة للحداثة على الشخص وعلى الحياة.
كان لا بد للكيانات السياسية الناشئة في دنيا العرب، أن تتعامل مع الحداثة، التي دخلت من دون استئذان، وأن تبادر لبلورة الأفكار الوافدة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بغية تفادي الخلل والتباين في أنماط التطور المتسارع لمقومات الحياة المادية، من جهة، وفي ركود تطور الفكر والقناعات، من جهة أخرى. غير أن الطغم العسكرية والانتهازية، التي اغتصبت السلطة في الدول الفتية، وجدت في مجريات التحديث، ستارة قشرية صالحة للتوظيف، لتفتيت النسيج الاجتماعي الراسخ، ولإفراغ المجتمعات من قيمها ودفاعاتها، بغية استباحتها وإقصاء نخبها واستبدالها بالأنصار وبالقيم التدميرية التي يجسدها الحاكم وأتباعه وزبانيته وأجهزته القمعية.
في واقع الأمر جسّدت إجراءات التحديث معاداة المنطق والعقل، وجنوحًا بائسًا لاستبدال الحضارة العربية بأبعادها الروحية والإنسانية، بواحد من شرّين: فإما خطاب الأنظمة المتمحور حول اجتماع متخيّل أملس ومنصهر لا نتوءات فيه ولا تضاريس، وإما الخطاب الدوغمائي المتزمت الذي ترّوج له الجماعات السلفية مراوغة او عن قناعة، لإحياء هويات ماضوية إقصائية متصارعة وقاتلة. من المؤسف أن انكفاء المثقفين والفكر النقدي قد ساعد على تفشي هذين الخطابين، وإمعانهما في تدمير التاريخ والجغرافيا والفكر والعروبة والدين.
نحن اليوم شعب بلا هوية.
كانت دنيا العرب، وعلى امتداد مساحتها -الأربعة عشر مليون كيلومتر مربع- المسرح الأرحب للروافد الغنية التي شكلّت حضارة البشر، منذ فجر التاريخ. فهي لم تنشأ من عرق واحد أو لغة واحدة أو ثقافة خاصة، بل كانت العروة الجامعة لأقوام هذا الشرق المتنوع الإستلهامات: السومرية والبابلية والأشورية والفينيقية والمصرية والآرامية والأمازيغية وغيرها... قبل أن تتمخض حضارةً عربيةً زاهرةً بتراكم طبقات روحية وفكرية، شكلّت بتنوعها مختبراً إنسانياً للتفاعل والتلاقح والإحتواء المتبادل، وبلورت، في السياق نفسه، الهوية العربية المنفتحة والسمحاء التي نادى بها المؤسسون من رواد النهضة، واعتمدوها منطلقاً للعيش معاً في دنيا العرب الغنية بإجتماعها التعددي وقاعدة لبناء مستقبل مشترك عزيز لا تمييز فيه ولا تفضيل.
فعوضاً عن بلورة هوية عربية، أرادية مستقبلية، حاضنة للميراث الحضاري التعددي، راعية للقيم الإنسانية الأصيلة، وضامنة لحرية الفرد وكرامته، اكتفت الأنظمة العربية بممارسة لعبة صراع الهويات الماضوية وتوظيفها لإلهاء الجماعات وتقاسم ولاءاتها.
من الراهن، أن لا سبيل لاستعادة موقع الأمة العربية على خارطة عالم المستقبل، ما لم يتح لدولها الإعتداد بهوية قومية واحدة معترف بها، منفتحة على تنوع الإجتماع العربي، ملتزمة بالحرية وبالديموقراطية، منزهة من التعصب والعنصرية، ملتزمة بالمحافظة على حقوق الأفراد والجماعات وعلى المساواة والكرامة الإنسانية في ظلال مشروع ثقافي عربي يعيد تشكيل الوجود العربي على امتداد دنيا العرب.
كان من الطبيعي أن يؤدي تشويه الهوية العربية وتحجيمها إلى تقزيم المشروع الثقافي العربي وتحييد دور الثقافة في مواجهة تحديات العولمة والتحديث وفي استقطاب الشباب العربي وتوحيد صفوفه.
فهل نحن قوم نخاف الثقافة؟
لأن الثقافة صناعةُ البشر الأنبل، ولأنها تجسد ميراث تجارب الأجيال ومعاناتها للارتقاء وللابداع، فهي تضفي على المثقف، في كفاحه الشاق لوعي ذاته ولتحقيق إنسانيته في مواجهة الفراغ والقلق والمجهول، دور الخالق والفاتح معاً.
ففي الثقافة، وحدها، جوهر الأجوبة المعقدة التي يصوغها الإنسان في بحثه عن معاني وجوده وسعيه الى التحرر من معايير الزمان والمكان، لممارسة حرية غير رازحة ولا مقيدة ولا مسدودة. فهي الخيار الاضمن لعقلنة مقاربات البشر للاقدار المهيمنة على مصائرهم، بأبعادها البيولوجية والاجتماعية والروحية والمادية. وعندما يستقيل المثقفون من مسؤولياتهم، يُسخّر دور العقل وتُسيطر الأوهام ويجنح المجتمع نحو الفكر الخرافي والمتزمت والعصبيات، فيتخلى المجتمع عن القيم الأساسية التي كرستها الحضارة لحماية كرامة البشر.
راهن رجال النهضة على الثقافة، كمشروع تأسيسي لتوحيد دنيا العرب، وكان من الراهن الإعتقاد بأن تحقيق هذا الهدف يتطلب قيام دولة أو دول لديها الشجاعة للاعتراف بهويتها المعاصرة، وبما تمليه عليها هذه الهوية من موجبات، إن بالنسبة إلى العدالة الإجتماعية والمساواة أو بالنسبة للحقوق الأساسية للمواطنين وفي طليعتها الحرية الفردية والكرامة الإنسانية والتنمية الاقتصادية، ولكن ذلك لم يتحقق وبقي المشروع الثقافي العربي ينتظر قيام أنظمة لا تعادي الثقافة.
عفوك سيدي صاحب السمو الملكي.
كبديل عن المشروع الثقافي، مشروع منتداك، نقضي أعمارنا التي هجرها الفرح أمام مشهد استعراضي، لقبائل وعشائر وأتباع ومجموعات، تتبادل الضغائن والأوهام والخرافات وتواريخ الخصام. وتتبادل الأدوار كما تتبادل الغاز القاتل والأفخاخ البشرية والذل.
هل أطبق التاريخ علينا؟ أم أن للتاريخ خيارات أخرى خارج لعبة تحريك الغرائز وإثارة الفتن والأحقاد أو التفاهة؟
ليس ترفاً فكرياً، أن نحلم، بدنيا للعرب، آمنة، ومحررة من الجهل ومن التخلف، حاضنة لدول عصرية، تؤمن بالحرية والمساواة، وتؤسس لثقافة مشرقة في أوطان مكرسة للعيش معاً وللقاء الأفكار والأديان و لتألق الحضور التعددي حيث لا يقصي أحد أحداً ولا تهيمن فيه جماعة على سواها.
من الجائز لنا في هذا المنتدى أن نحلم، فكل عمل كبير يستهله حلم صغير!
رجائي، أن يتحقق حلم أميرِ الفكر والرؤية، أطال الله عمرك، و أملي أن يصبح هذا الحلم الكبير خارطة طريق الشباب والشابات، رياحين دنيا العرب.