هناك خيبة توقُّع تَسبَّب بها إحساس الحزب بأنّ بعض الخفوتِ طرَأ على حميميةِ عون تجاهه. خلال الجلسة الشهيرة بين وفد «حزب الله» وعون والوزير جبران باسيل في قصر بعبدا، قبَيل انفجار أزمة الأربعاء الماضي التي أعادت البلد إلى أجواء انقسام العام 1975، حصلت وقائع أصابت ذاكرةَ «حزب الله» عن علاقته بـ«التيار الوطني الحر»، بندوبٍ ليس سهلاً عدمُ التوقّف عندها، على الرغم من أنّ القرار في الحزب لا يزال يميل إلى احتواء الأزمة وليس للمواجهة، وفي الوقت نفسه عدم تركِ رئيس مجلس النواب نبيه برّي وحيداً في معركته للدفاع عن عدم شغور الموقع الشيعي الأوّل في النظام اللبناني.
إختار عون خلال لقائه وفدَ «حزب الله» أن يظلّ صامتاً ولم ينبُس خلاله، رغم أنّه استمرّ زهاء ساعتين، إلّا بكلمات لا يتجاوز عددها عددَ أصابع الكفّ الواحد. وترَك عون باسيل يُعبّر عن موقف «التيار الوطني الحر» من قانون الانتخاب. صمتُ عون بدا للحزب أشدَّ إيلاماً ممّا لو أنّه قال الكلام الخلافي نفسه من قانون الانتخاب الذي قاله باسيل.
وداخل الحزب المسكون بطريقة أمنية بالتفكير وليس فقط سياسية، لا شكّ في أنّه سيطرح السؤال: لماذا قرّر عون أن يكون موقفه الصمتَ أثناء اللقاء؟ بكلام آخر: سيتساءَل الحزب ليس عن أسباب صمتِ عون، بل أيضاً عن خلفياته، واستدراكاً: لماذا قرّر عون أن يفتح صفحة صمتٍ في علاقته مع الحزب، علماً أنّ تاريخ العلاقة بينهما منذ تفاهمِ مار مخايل حتى الآن، كان يتّسم بميزة «التفكير بصوت عالٍ» بين الطرفين.
مرّةً أخرى، رسالة الصمت مؤلمة لـ»حزب الله» وتفتح نافذةً للتفكير داخله عن سببها، وبتعبير أدقّ عن خلفياتها، خصوصاً أنّ «الحزب تقصَّد أن يرسِل إلى اللقاء بعون وفداً موسّعاً ومن الصف الأوّل ضمَّ رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد ونائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم والحاج حسين خليل المعاون السياسي للأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، وكان القصد من ذلك الإيحاء لعون بأنّه لا يلتقي فقط وفد الحزب، بل السيّد نصرالله نفسه. ولكنّ الوفد خرج من الاجتماع بانطباع أنّ هذه الرسالة الرمزية لم تصِل إلى رئيس الجمهورية أو هو تجاهَلها.
ليس معروفاً حتى اللحظة كيف سيُدير نصرالله لعبة إصلاح «الشُعر» الذي أصابَ الهيكلَ العظمي للعلاقة مع عون، وأيضاً مع باسيل. ولكن الأكيد أنّ ثمّة رهاناً لا يزال مطروحاً على طاولة القرار لدى الحزب، وهو إمكانية الوصول إلى قانون مختلط، فيه نسبية تؤمّن في الأساس تمثيلَ الأقليات السياسية، وليس روحية القانون الأرثوذكسي.
وفي انتظار ذلك، فإنّ المطابخ السياسية للطوائف الإسلامية الكبرى في البلد، السنّية والشيعية والدرزية، تَستشعر على اختلاف مواقفِها من «الطائف»، بأنّ سلوك باسيل كمعبِّر عن رئيس الجمهورية، يؤدّي إلى المسّ بمعادلة «إتفاق الطائف» ليس بالمعنى الدستوري، بل بروحيته السياسية التي قوامُها أنّ لبنان انتقل بدايات تسعينات القرن الماضي من مرحلة «جمهورية المارونية السياسية» إلى مرحلة «مجلس الوزراء مجتمعاً».
وتتعمَّق هذه الأزمة نتيجة أنّ موقف الصمت نفسَه الذي واجَه به عون وفد «حزب الله»، هو ذاتُه تمارسه المراجع الإسلامية اللبنانية مع عون خلال لقاءاتها به، حيث لا تُفاتحه بتساؤلاتها أو بهواجس تنتابها خلال رئاسته حول استمرار روحية «اتفاق الطائف». ولكن في غرف النوم السياسية للطوائف الإسلامية، يتعالى الهمس حول هذه التساؤلات.
هناك نماذج عن بعض الهواجس التي هي محلّ همسٍ إسلاميّ، أبرزُها التوقّف خصوصاً عند طريقة «تفخيم» مصطلح «العهد» كما يعبِّر عنه بكثرة منَظّرو الرئاسة العونية. وفي نظر نخَبٍ مسلمة، خصوصاً سنّية، فإنّ استعمال مصطلح «العهد» بمعناه السياسي الموحي بقدرات وصلاحيات واسعة، يُعَدّ مغالطة علمية وسياسية.
فعبارة «العهد» في رأيهم، هي مصطلح كان يُطلق على رئاسة الجمهورية في زمن الجمهورية الأولى حينما كان «فخامة الرئيس» لديه صلاحيات دستورية واسعة. كان يمكن القول، مثلاً، «العهد الشمعوني» أو «العهد الشهابي»، ألخ. ولكن بعد «الطائف» لم يعُد الرئيس هو «كلّ العهد»، بل هو جزء من منظومة مجلس الوزراء مجتمعاً، وهي التي تَحكم لبنان.
للوهلةِ الأولى يبدو هذا الاعتراض شكلياً، ولكن في العمق يعبّر عن وجود هاجس لدى المسلمين مِن أن يكون عون يَفهم «الرئيس المسيحي القوي» أنّه استرجاع لوقائع عهود رئاسة الجمهورية أيام المارونية السياسية، حيث كانت صلاحياته متقدّمة على صلاحيات الرئيسَين الثاني الشيعي والثالث السنّي.
ثمَّة همسٌ آخر يفيد أنّه فيما لو سار عون وفقَ منطق أنّ قوَّته التمثيلية المسيحية يمكن أن تعوّضه، كرئيس للجمهورية، ما انتقصَ من صلاحيات الرئاسة الأولى في «اتفاق الطائف»، فإنّ هذا سيَجعله يصطدم بمفهوم الشيعة بأنّ قوَّتهم الإقليمية وإنجازات مقاومتهم، تجعل الرئيس الثاني قادراً على منعِ إعادة الشيعة سياسياً إلى مرحلة ما قبل «الطائف» في لبنان.
هذه النظرية تتحدّث عن أنّه ضمن المسارِ الحالي في التعبير عن «العهد العوني»، قد يحدث صِدام حتمي بين «فائض القوّة» داخل النظام الذي يشعر به «جمهور المقاومة» من الشيعة، و»فائض القوّة» الذي يشعر به جمهور مصطلح «الرئيس القوي» من المسيحيين.
أمّا عند السنّة، فكانت هناك دلالة لحديث سابق بين موفد مصري كبير أيام الرئيس حسني مبارك مع الرئيس ميشال سليمان، لقد سأله الأوّل: ماذا يريد فخامة الرئيس من القاهرة، لديّ تعليمات من الرئيس أن ألبّي كلَّ مطالبك. صمتَ الرئيس سليمان، ما اضطرّ الموفد المصري لتكرار السؤال.
وهنا أجابه سليمان: «لا أريد شيئاً لي، ما أريده هو أن تعمل القاهرة على إعادة بعضِ الصلاحيات لرئيس الجمهورية المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط». وهنا جاء دور الموفد المصري في إبداء الصمت حيال هذا المطلب.
الصمتُ الإقليمي والداخلي حيال التعبير بصراحة عن أنّ لبنان تغيَّر، هو أخطرُ وصفة سريعة لحدوث فجوةِ التفاهم ليس فقط بين الرئيس القوي وشارعِه المسيحي من جهة، وبين السنّية الإقليمية والمحلّية الداعمة لـ«إتفاق الطائف» والساعية إلى استنساخه في سوريا، من جهة ثانية، بل أيضاً بينه وبين حلفائه الشيعة المصمِّمين على عدم العودة إلى قمقم الجمهورية الأولى.
«ما فاتَ لا يمكن إعادةُ إنتاجه كما كان سابقاً، في أحسن الحالات يمكن تطويرُه»... هذه العبارة ترَكها وراءَه مبعوث دولي جاء إلى لبنان عقب استشهاد الرئيس رفيق الحريري ليقنعَهم بأنّ النظام الطائفي في لبنان لم يعُد لمصلحتهم.