حُلم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالعودة الى السلطنة العثمانية، يتحقق يوماً بعد يوم. فبعد الاطاحة بخصومه، ها هو اليوم يضع كل الصلاحيات الدستورية بيده ويفرض واقعاً جديداً على الحياة السياسية، لاغياً معها النموذج التركي السائد منذ سنوات بالجمع ما بين الاسلام السياسي والديموقراطية البرلمانية.
التعديلات الجديدة تعتبر أشبه بدستور جديد للبلاد، إذ فُصّل على قياس رئيس الجمهورية، فهو من يقرر الحرب والسلم، وهو القائد الاعلى للبلاد، ولم يعد ثمة وجود لمنصب رئيس الوزراء، فأصبح الرئيس المنتخب من الشعب مباشرة رئيسا للحكومة، وقائدا للدولة، وبيده تعيين المديرين العامين، كما يملك الصلاحية التشريعية رغم وجود البرلمان! وصولاً الى اعلان حال الطوارئ إذا ما حصلت اضطرابات مزعجة للرئيس، وغيرها العشرات من التعديلات التي ستضع تركيا امام سلسلة امتحانات متلاحقة قد تصل الى مرحلة الانفجارالداخلي قبل الخارجي.
تغيير وجه تركيا
الخبير في الشؤون التركية محمد نور الدين رأى في حديث الـى "النهار" ان التعديلات الاخيرة هي تغيير جذري لتركيا لتطوي معها صفحة الديموقراطية لمصلحة السلطان الاوحد الآمر الناهي، وقد عبّر اردوغان ضمنياً عن ذلك عندما صرح بأنه طوى صفحة نقاش زاد عمرها عن 200 سنة، إذ أفصح علناً عما في داخله بحلم العودة الى حكم السلطان الذي لا يحده اي قانون او سلطة، فبيده اعلان حال الطوارئ، متخطياً ايضاً عقبة البرلمان للمشاركة الخارجية في الحروب، وهو من سيقرر شكل التحركات العسكرية الخارجية على عكس ما حصل عند الاجتياح الاميركي للعراق ورفض انقرة حينذاك المشاركة في اي تدخل عسكري مشترك لغزو بغداد، أما الآن فالأمر مختلف.
"حريم السلطان"
ومن الصلاحيات التي تعزز فرضية نظرية "السلطان"، امكانية تعيين نائب للرئيس عمره فقط 18 سنة، معتبراً كيف يمكن شاباً في عمر الثامنة عشرة ان يحكم تركيا في حال غياب الرئيس، وكأن اردوغان يطبق "مسلسل حريم السلطان" على ارض الواقع حيث نجد حكاماً صغار السن.
وحول مستقبل تركيا بعد الاستفتاء، اعتبر نور الدين ان انقرة تتجه الى الانفجار الكبير، فالفارق بين مَن صوّت با"نعم" و"لا" متقارب جداً، وهذا الامر كفيل بعدم استقرار الحياة السياسية والامنية. ومَن رفض التعديلات سيعتبر النظام الجديد نظاما "عبوديا" خصوصاً ان المناطق الكبرى رفضت التعديلات الدستورية على عكس الارياف التي وافقت عليها، بفضل الماكينة الاعلامية الضخمة للحزب الحاكم، فمن يتجول في الشوارع التركية في الايام الأخيرة يظن نفسه في بلد يسمى "نعم" نظراً لكثرة الاعلانات المؤيدة للتغييرات.
كلام نور الدين يرفضه عضو المكتب السياسي لـ "الجماعة الاسلامية" علي أبو ياسين، معتبراً ان تركيا بعد حكم حزب العدالة والتنمية "لم تعد كما كانت سابقا، فالتطور الذي احدثه الحزب يشهد له العالم اجمع، والنمو الاقتصادي والصناعي وارتفاع الدخل القومي ليصل الى 800 مليار دولار سنوياً، وضع تركيا بين الدول العشرين الاقوى اقتصادياً حول العالم، جميعها عوامل دفعت الشعب التركي الى انتخاب الحزب في السنوات السابقة والتصويت للتعديلات ولو بفارق ضئيل، فالدول الديموقراطية الكبرى تتخذ القرارات المصيرية بفارق بسيط، وتركيا دولة كبرى يحق لشعبها ان يقرر ما يحلو له، ومن يعارض فقراره محترم"، مشيراً الى ان نسبة المناطق ذات الغالبية الكردية والتي صوتت بما يزيد عن 42 % منها بـ "نعم"، تعتبر ظاهرة لافتة رغم سفك الدماء الحاصل.
ومن التعديلات المميزة بحسب "الجماعة الاسلامية"، الغاء المحاكم العسكرية، "بينما في وطننا العربي تعطى تلك المحاكم صلاحيات اوسع، كذلك خفض سن الترشح للانتخابات الـى 18، اما في لبنان فنخوض معارك لخفض سن الاقتراع. أعتقد أن تركيا تتجه نحو مزيد من الازدهار".
حماسة أبو ياسين يرفضها المتخصص في الشأن التركي ميشال نوفل، معتبراً أن المجتمع التركي الذي يضم النخب الثقافية والليبرالية المدينية "لن يتحمل ما حصل، خصوصا ان المدن الكبرى رفضت التعديلات، ليتجه هذا المجتمع نحو الانقسام الحاد مع تتالي الازمات الخارجية والعداوات التي فرضها السلطان العثماني الجديد من سوريا والعراق وصولاً الى اوروبا، واضعا تركيا امام نيران داخلية واقليمية وعالمية، ورغم خطورتها فهو يقودها بطريقة جنونية وغير ذكية، إذ فصّل بطريقته الدستور على قياسه، وحلم السلطان الاعظم وضع البلاد امام حالة من الغموض، فلا يمكن مَن صوّت بـ"لا" ان يقبل بحكم الشخص الواحد، خصوصاً ان الرفض يرافقه اعتراض دولي للتعديلات، وقد نشهد اضطرابات قبل اجراء الانتخابات في العام 2019".
(علي عواضة)