لا قيمة لأي رأي، ولا وزن لأي رد فعل عربي ( بما فيها الرد الآتي) على الاستفتاء الشعبي لتعديل الدستور التركي وإقامة الجمهورية التركية الثانية. كل ما صدر ويصدر عن اي عربي في هذا الشأن، يخلو من الحياد ويفتقر الى المعرفة البسيطة بما يجري في ذلك البلد المجاور المهم، والمشارك في الكثير في الهموم العربية والمساهم في الكثير من الانقسامات والانحيازات العربية.
فالخطوة التركية هي في المبدأ إفتراق إضافي جديد عن العالم العربي، الذي لا يمكن لأي دولة من دوله ان تجروء، طوال هذا القرن على الاقل، على دعوة ناخبيها الى الاستفتاء على تعديل دستورها وأنماط حكمها وإنتظام مؤسساتها، وأن تخرج من مثل هذه التجربة من دون حرب أهلية أو تقسيم او فوضى أو فراغ.
وما يبدو لبعض العرب أنه تطوير وتحديث لنموذج تركي ناجح لن يكون سوى توسيع للهوة العربية مع تلك الجمهورية التركية الحديثة ، التي ازدادت بالامس منعة وحصانة وديموقراطية، وإقتربت أكثر فاكثر من النماذج والانماط الغربية المتقدمة، لاسيما منها النموذج الاميركي الذي نسخه الاتراك بشكل شبه حرفي وإختاروه مرشداً لدولتهم شبه الفيدرالية، مع الاستعانة ببعض التجارب الاوروبية الغربية الناجحة أيضا.
وما يبدو لبعض العرب أنه إرتقاء في المثال الاسلامي المعتدل والمنفتح، لن يكون سوى تتمة وتتويج لمسيرة حزب يعبر عن العصبية الوطنية التركية أكثر بكثير مما يعتمد على النص الاسلامي في الحكم، او يستند الى مؤسسة دينية او رجال دين يبشرون بالعقيدة ويستخدمونها سلاحا في مواجهة الآخر. ليس هذا هو حزب العدالة والتنمية، الذي بدا في بعض الحالات التركية الداخلية متعارضاً مع الفكرة الاسلامية نفسها. والاستفتاء بحد ذاته خير دليل. والتعديلات الدستورية المتقدمة لا تقود إلا الى هذه الفكرة.
وما يبدو لبعض العرب أنه تعديل دستوري مبتسر يفتقر الى الشرعية الشعبية، لن يكون سوى إستكمال لاستفتاءات وإنتخابات أوروبية غربية، غيرت وجهة دول مهمة وحددت مسارها الاستراتيجي بأغلبيات لم تزد على واحد أو أثنين في المئة كحد أقصى. والاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الاوروبي لم يكن المثال الوحيد. ولعل ذلك الاتحاد سيبقى ويتمدد بغالبيات شعبية أوروبية لا تزيد على النصف في المئة.
وما يبدو لبعض العرب أنه تقدم لتيار إسلامي عربي، او بالتحديد لجماعات الاعتدال الاسلامي مثل الاخوان المسلمين العرب وغيرهم، لن يكون سوى تجديد عابر لإلتزام أخلاقي ونداء سياسي تركي بان تعترف الدول العربية بوجود مثل هذه التيارات في مجتمعاتها وان تشاركها في السلطة وان تستفيد منها في مواجهة التطرف والغلو والارهاب، وفي إخضاعها لمؤسسات الدولة المدنية، بل العلمانية، إذا كان ذلك يساهم في الاستقرار والازدهار.
وبهذا المعنى لا تبدو تركيا محايدة. ولعلها لم تكن كذلك يوماً. لا عندما كانت في ذروة عصبيتها القومية، ولا عندما صارت في ذروة تجربتها الديموقراطية. وكذا الامر بالنسبة الى العرب: لم يكن هناك عربي واحد محايد تجاه تركيا، لا في مستهل الربيع العربي الذي تحمس له الاتراك أكثر من سواهم، ولا في خلاصته الحزينة الراهنة التي كلفت وتكلف الاتراك الكثير من الاعباء والمسؤوليات غير المرغوبة من أي تركي مهما كانت عواطفه وروابطه مع العالم العربي.
لا بد من الاقرار بأنه ليس هناك موقف عربي محايد او موضوعي، او حتى معرفي، من تركيا وجمهوريتها الثانية العتيدة، بسبب دورها في سوريا خاصة. هي طرف مباشر ومن دونها لا يمكن لأحد ان يزعم ان الثورة السورية يمكن ان تصمد لأسابيع او لأشهر أمام الإجتياح الروسي الإيراني الواسع . هذا هو معيار الحكم الأهم على نتائج الإستفتاء التركي، وهذا هو مصدر التهاني او التعازي العربية بذلك النصر الواضح الذي حققه رجب طيب أردوغان.
لم تعد تركيا نموذجاً. لم تكن كذلك في أي يوم. هي تبتعد في الجوهر عن المجال العربي، لكنها تقترب من الإسهام الجدي في تغيير النظام في سوريا. وهذا يكفي. \