تسيطر على الساحة التركية حالة من التجاذب الشديد على وقع الاستفتاء الحاسم الذي قد يشكل منعطفا في التاريخ السياسي لتركيا ومستقبل الإسلاميين في السلطة، فالاستقطاب الثنائي الذي يقسم الشارع التركي يبدو أنه قد أطاح بنبرة الاسترخاء والاطمئنان التي كانت مهيمنة على خطابات حزب العدالة والتنمية، مع اتساع موجة الرافضين لمشروع التعديلات الدستورية بعد انقلاب موقف القوميين. والمحصلة أن أردوغان لم يعد اليوم واثقا من الفوز المطلق والكاسح مثلما كان الحال عليه خلال الأسابيع الماضية إزاء إمكانية انقلاب معطيات التصويت في اللحظة الأخيرة.
 
 يشهد الشارع التركي استقطابا حادا عشية الاستفتاء العام على التعديلات الدستورية في 16 أبريل الجاري. ومن الممكن أن يؤدي الاستفتاء، وهو السابع في تاريخ تركيا، إلى أكبر تغيير في نظام الحكم في البلاد منذ تأسيس الجمهورية الحديثة قبل أكثر من قرن، إذ يستبدل بالنظام البرلماني نظام رئاسة تنفيذية، عبر تعديلات ستطرأ على 19 مادة من الدستور التركي.
 
“افيت” (نعم) أو “هايير” (لا)، تصويت الهدف منه ليس فقط تغييرَ النظام البرلماني إلى رئاسي؛ بل هي معركة مفصلية قد تسدل الستار على حقبة زمنية من تاريخ صناعة الرؤساء والمؤسسات الحاكمة في البلاد عن طريق الانقلابات العسكرية.
 
وقبل أن تكون معركة رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، الحاكم منذ 2002، هي معركة تركيا التي أصبحت منقسمة، لا فقط إلى علمانية أتاتوركية وإسلامية أردوغانية، بل أيضا منقسمة إلى إسلام سياسي ممثل في حزب العدالة والتنمية وإسلام اجتماعي، ممثل في جماعة فتح الله غولن، وتحدي هذه الأخيرة هو المعركة الحقيقية لأردوغان التي بدأت عندما كان رئيسا للوزراء ثم وصلت ذروتها مع فشل انقلاب 15 يوليو والاستفتاء على التعديلات الدستورية، الذي سيكون الحاسم في هذه المعركة.
يتطلع أردوغان إلى حسم الموقف مع حليفه القديم وغريمه الحالي فتح الله غولن، الذي يمتلك مساحة سيطرة هامة في الداخل وأيضا على الجالية التركية، وعلى مستوى المنافسة الخارجية، من خلال المدارس والأنشطة الخيرية.
 
ولطالما شيطن أردوغان معارضيه، معتبرا أن كل من يريد التصويت بـ”لا” يدور في فلك حزب العمال الكردستاني والداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في 15 يوليو.
 
وأوضح مؤلف كتاب “السلطان الجديد” الذي سيصدر قريبا، سونر كاغابتاي، أنه قد “يفوز، ولكن في النهاية، فإن نصف البلد يحبه ونصفه الثاني يكرهه. وهنا تكمن أزمة تركيا الحديثة”. وأظهر أردوغان براغماتية كبيرة في تحالفاته التي كان آخرها عقده تحالفا مع القوميين.
 
وتسعى المعارضة التي تتزعمها التيارات العلمانية ممثلة أساسا في حزب الشعب الجمهوري، الذي انضم إلى الخندق المناوئ لأردوغان، لتعبئة أنصارها والتأثير على قرار نسبة هامة من الناخبين الذين لم يحسموا خيارهم بعد، بالتركيز على خطورة التعديلات المقترحة باعتبارها تهديدا صريحا للديمقراطية وانقلابا عليها.
 
ويعتبر حزب الشعب الجمهوري أن التعديل سيطلق يد النظام الحاكم نحو المزيد من التنكيل بكل الأصوات المعارضة وإلجامها، خاصة بعد سيطرة العدالة والتنمية على كل مفاصل الدولة واختراقه لكل المؤسسات الحساسة طوال السنوات الأخيرة، والتي بلغت أوجها إثر عملية التطهير الواسعة التي أطلقها النظام عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في الصائفة الماضية.
فوبيا غولن
 
تحول المواقف داخل صف القوميين من مشروع الاستفتاء وانقلابهم على التقارب السابق الحاصل مع أردوغان، يطرح أكثر من تساؤل عن دوافع الانسلاخ عن التوافقات التي تم إقرارها بين العدالة والتنمية وأحزاب الحركة القومية، وهو انقلاب يحيل بحسب تقديرات المراقبين إلى دور خفي لفتح الله غولن، الذي لا يثق بقدرة جماعته في إحباط نتيجة الاستفتاء بعدما شهدته من اجتثاث من الملعب السياسي ومؤسسات الدولة لذا لجأ إلى القوميين.
 
لا تنحصر عداوة الحليفين السابقين غولن وأردوغان واللذين ينطلقان من خلفية إسلامية مشتركة بالعوامل السياسية أو صراع النفوذ على السلطة، بقدر ما تمثل صورة مصغرة للانقسام الذي يطبع الشارع الإسلامي وقواعده في تركيا، ما بين مدرستين متناقضتين على مستوى التمثلات والأهداف والبرامج والذي يصطلح الباحثون على تسميتهما بمنهجي الإسلام الاجتماعي والإسلام السياسي.
ويعد غولن الداعية الإسلامي والباحث المتصوف والوافد على الحقل السياسي عبر بوابة العمل الخيري والإنساني أحد أقطاب المدرسة الاجتماعية ورائدها الأبرز في تركيا، وهي منهج فكري يستقي أسسه ومنابعه من الموروث الصوفي الذي طبع الثقافة الإسلامية في تركيا عبر التاريخ.
 
وتتركز منهجية غولن على قراءة معتدلة تنطلق من كونية الإنسان وعقلنة الإسلام، والذي يعتبره جزءا من “الهوية الثقافية الوطنية”، انطلاقا من تأثيره الفكري والحضاري في تركيا بعكس تيارات الإسلام السياسي، التي تنزع إلى اعتبار الدين عاملا محددا للهوية ضمن مفهوم شمولي ضيق أقرب إلى نهج “الأممية الإسلامية”.
 
ويرى المتابعون أن نهج غولن الاجتماعي كان نواة الصراع الأساسية مع الإسلام السياسي الذي جاء في مرحلة تاريخية متأخرة محملا بأفكار مسقطة غريبة عن البيئة التركية وخصوصية ثقافتها الدينية.
 
ونجح غولن في تعزيز ثقله وامتداده الشعبي بفضل الدور الاجتماعي الذي ركزه عبر شبكة من الجمعيات والأنشطة الخيرية والأهلية، إلى جانب العشرات من مؤسسات التربية والتعليم والتي تعد أحد جوانب فلسفته السياسية التي اعتمدت مقاربة ما بين الإسلام والديمقراطية، فضلا عن معارضته للعدالة والتنمية في الدعوة إلى تطبيق الشريعة في الشأن العام.
 
تحول أستاذ أردوغان منذ سنة 2013 إلى “مؤسس لكيان إرهابي مواز” بحسب النظام بعد أن أنهت القطيعة مرحلة التقارب والتحالف السياسي التي سعى إليها العدالة والتنمية وعمل على توطيدها بهدف الاستفادة من شعبية غولن والاحترام الذي يحظى به حتى داخل أحزاب المعارضة، مما أكسبه شرعية قاعدية ومظلة سياسية واسعة.
 
لكن موجة معاداة غولن أكسبت الرجل تعاطفا في الشارع وفي أوساط المعارضين جراء ما تعرضت له حركته من ممارسات انتقامية من أردوغان، والذي يتحسب من محاولات غولن لتعبئة الشارع وحبك التحالفات والمناورات حتى من منفاه الأميركي.
 
وضمن هذا السياق، ينسب المراقبون كواليس تحالف ما بين غولن وبعض قيادات الحركة القومية انطلاقا من إدراكه للثقل الكبير الذي تلعبه الحركة في تحديد اتجاهات التصويت والتأثير به، ما دفعه إلى إعادة تحريك مخاوف حزب الشعب الجمهوري من طموحات أردوغان ومشروعه السلطوي.
ويضع تحالف غولن والقوميين والذي يترجم التقاء مصالح براغماتي بين الطرفين أردوغان وأحلامه الرئاسية في زاوية حادة نظرا للجهود التي بذلها طوال الفترة الماضية لتأمين دعم التيار القومي وبناء علاقات دافئة معه بلغت حد قيامه بزيارة قبر مؤسس الحركة القومية التركية الحديثة، ألب ارسلان توركيش، إحياء للذكرى العشرين لوفاته في خطوة مفاجئة أثارت تعليقات شتى في الشارع التركي.
 
 
تحويل تركيا
 
كلما حشد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنصاره في تجمع انتخابي لدعم النظام الرئاسي الجديد، تطل بجانب الملصق الضخم الذي يحمل صورته، صورة أخرى لرجل نظرته ثاقبة يرتدي ملابس أنيقة، إنه مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس سنة 1923 الجمهورية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المنهارة.
 
ويطمح أردوغان إلى نحت مكانة له في تاريخ تركيا تنافس تلك التي احتلها أتاتورك، إذ يتطلع إلى البقاء في السلطة عام 2023 عندما تحتفل تركيا الحديثة بالذكرى المئة لتأسيسها. ويقول محللون إن أردوغان يرى نفسه بطريقة مشابهة أنه قائد قادر على إحداث تحولات ذات أبعاد تاريخية.
 
ويقول كاغابتاي إن “أردوغان يرغب الآن بتعديل الدستور ليصبح رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية“.
 
وأضاف أنه “كما قام أتاتورك بهندسة المشهد الاجتماعي السياسي، يريد أردوغان كذلك تحويل تركيا تماما ولكن لتصبح مجتمعا مسلما في العمق“، لكن الفوز بالاستفتاء لوحده لا يكفي، بل يحتاج إلى فوز كبير يظهر أن البلاد تقف من خلف التعديلات وخلفه وأنها ليست منقسمة، ليحظى بـ”خلود” أتاتورك.