جريمة خان شيخون، قلبت الكثير من المعادلات. معادلة واحدة لم تتغيّر ولن تتغيّر وهي: «لا مواجهة ولا صدام بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وإنما منافسة ومزاحمة». منذ العام 2013 حتى خان شيخون، شنّ نظام الأسد 161 غارة بالسلاح الكيماوي، ولم يُعاقَب. الغارة الأخيرة، سحبت كل الدفاعات عنه، حتى قول موسكو إن الانفجار حصل «من تحت» في مخزن للسلاح الكيماوي لم ينفع. موسكو تعرف جيداً بما تملكه من تقنيات، وما يتابعه خبراؤها ميدانياً، وما تعرفه جيداً وفي العمق عن الأسد ونظامه أن طائرة سورية هي التي ارتكبت الجريمة. السؤال الطبيعي هو: لماذا ارتكب الأسد هذه الجريمة بدم بارد بعد سقوط حلب، وظهور بوادر وحتى مبادرات للقبول به على قاعدة أنه «يبقى أفضل من داعش»؟
لا شك أن مصالح وأهداف الأسد وطهران وأنقرة وموسكو وواشنطن في سوريا ليست نفسها، وهي في أغلب الأحيان متعارضة لأنها في الأصل متنافسة. في قلب هذا الواقع الغريب والعجيب يسعى كل طرف لتحسين وضعه وشروطه. موازين القوى تقرّر النتيجة.
لذا فإن صناعة هذه الموازين ضرورية وهي تقوم في ميادين المواجهة السورية.
في هذا السياق توجد نقطتان أساسيتان:
* أن واشنطن تريد تقليم «أظافر» موسكو لكنها لا تريد ولا تسعى لاقتلاعها، لأن لا أحد يريد ولا حتى يمكنه إلغاء الآخر.
* أن واشنطن يهمّها إلحاق هزيمة بإيران تُنتج إبعادها عن سوريا، وبالتالي عودتها إلى داخل الدائرة التي تحفظها داخلياً من دون أن تسمح لها بالتمدّد إقليمياً. موسكو لا تريد هزيمة طهران لأنها حليفة معلنة لها، لكنها ترغب بالحدّ من نفوذها، وهي في ذلك تتفق ضمناً مع واشنطن على هذا الهدف. من الطبيعي أن القوّتين لا تريدان شريكاً إقليمياً لهما وإنما حلفاء ولاعبون تحت ظلالهما.
أما طهران وأنقرة، فإنهما تسعيان إلى مدّ نفوذهما باسم التاريخ والجغرافيا والحاضر، لكن كلاً منهما ضمن مسار مختلف عن الآخر. أنقرة تريد هزيمة الأسد واقتلاعه من السلطة، أما طهران فتعمل وتضحّي ليبقى ويستمر إلى درجة أنها أنفقت واستثمرت في سوريا منذ مطلع الثورة الإيرانية حتى الآن أكثر من 120 مليار دولار وعدة آلاف من القتلى من جنودها قبل ميليشياتها، لتحقيق انتصار كامل في سوريا، يضمن لها الوجود المباشر طويلاً ويحفظ أمن واستقرار «حزب الله». وفي كل ذلك تتفق طهران وأنقرة على نقطة استراتيجية وهي منع قيام «شريط» كردي تحت أي صيغة من الصيغ لأن ذلك يضرب أمنهما القومي في العمق.
أما الأسد فإنه يعيش في حالة عبّر عنها بوضوح وهي «لا خيار غير النصر». هذا الشعار يرسم الحالة التي تدفع الأسد إلى ارتكاب أي عمل حتى ولو كان جريمة موصوفة للانتصار. لذلك فإن الأسد الذي تحقق له «انتصار حلب»، ومنعه الروس من الاحتفال به في حلب نفسها وإلقاء خطاب الانتصار حفاظاً منها على كل الشروط المطلوبة للتفاوض على مستقبل سوريا، لم يتحمّل هذا القرار. ويُقال إن «مجموعة الضباط المتشدّدين رفضته ونفّذته على مضض». لذلك أقدم الأسد على قصف خان شيخون، من جهة لإثبات أن لا أحد يزايد على تشدّده خصوصاً من جنرالاته، وليوجّه رسالة لـ«القيصر» أنه ما زال يملك القرار في سوريا حتى ولو كان بحاجة له.
ضمن كل «الرسائل» التي وجّهها الأسد في خان شيخون برأي الخبراء الروس والأميركيين (لولا ردّة الفعل «الترامبية» السريعة): ضرب مسار الأستانة من جهة، أما داخلياً فإنها:
* دفع المتردّدين من السوريين المدنيين والمسلّحين بالعودة إلى حضن النظام لأنه لا أمل لهم من المعارضة أو حمل السلاح.
* دفع المقاتلين المتشدّدين للارتماء يأساً في أحضان «النصرة» و«داعش» مما يُشرِّع دولياً أكثر فأكثر استمراره في الحرب حتى النصر.
الرئيس دونالد ترامب، ليس مجنوناً وإن كان شعبوياً مندفعاً كما لم نعهده في الرؤساء في العالم وليس في الولايات المتحدة الأميركية فقط. ترامب وجّه تحذيراً قوياً للأسد، من المؤكد أن موسكو فهمته جيداً ولذا تقع عليها المسؤولية بعد ذلك مباشرة. عليها ضبط الأسد وجنرالاته اليائسين من أي حل سياسي يلغيهم. ترامب سيتابع موقفه من سوريا، بهدف التوصّل إلى حلّ سياسي «لا مستقبل فيه في سوريا للأسد ولعائلته». النظام الجديد لن ينزل بمظلة ولا من الفراغ، النظام القادم سيُصنع من قلب المعادلات السياسية التي ستفرض مواده وحيثياته وشخصياته. لذلك من الخطأ القول إن النظام القادم في سوريا لن يأتي سوى من «طائف» سوري، كما جاء النظام اللبناني من «اتفاق الطائف».
انتهت مرحلة «الرسم على الماء». بدأت مرحلة «الرسم على الطاولة» رغم كل التوتّرات الدولية والإقليمية، ودائماً بدماء السوريين!