يمكن القول بالتأكيد، وعلى رغم المواجهة الأخيرة: لا طلاق مارونياً - شيعياً مهما حصل، بل إنّ المسار الاستراتيجي لا بدّ من أن يدفع إلى توسيع «الزواج» الماروني - الشيعي على قاعدة العقل، لا المتعة. لكنّ ذلك لا يعني الطلاق في أماكن أخرى. فالطوائف اللبنانية مضطرة إلى الاحتفاظ بالعقود القديمة، على حسناتها وعِلّاتها، كما هي، ريثما تنّضج الظروف لتجديد العقود.
في اللعبة الطوائفية الجارية منذ أشهر ما يثير الدهشة: عام 2016، جاء السنّي الرئيس سعد الحريري ليتبنّى ترشيح حليف «حزب الله» الماروني الرئيس ميشال عون، خلافاً لإرادة الشيعي الرئيس نبيه برّي، و»سعياً إلى استعادة الحقّ المسيحي السليب». وهكذا كان.
عام 2017، الحريري السنّي وسيط بين الماروني عون والشيعي برّي، ومعه «حزب الله»، لمنع الانفجار في قانون الانتخاب، و»سعياً إلى استعادة الحقّ المسيحي السليب».
لكنّ عون نفسه لطالما حاول إقناع المسيحيين بأنّ « اتفاق الطائف» هو الذي أكل حقوقهم، وبأنّ الذين أخذوا من الصحن المسيحي في الحكم هم السنّة خصوصاً، ثم الدروز، فالشيعة.
السنّة، في الأدبيات العونية، وبدعم سعودي، ورثوا في «الطائف» صلاحيات أساسية كانت لرئاسة الجمهورية وجيَّروها لرئاسة الحكومة لا لمجلس الوزراء مجتمعاً. وتحت مظلة التوافق السعودي - السوري، تقاسموا مع الشيعة حصّة المسيحيين من خلال ممثلين جاؤوا إلى السلطة ببوسطات يقودها زعماء الطوائف الحاكمة.
وعندما تحالف عون و«حزب الله»، كان يريد القول إنّ مقايضة قد تمّت بين المسيحيين والشيعة: يعترف المسيحيّون بالخيارات الشيعية الاستراتيجية، ويردّ لهم الشيعة ثمن ذلك بمساعدتهم لاستعادة التوازن في الحكم: رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي، الحكومة، الإدارات والمؤسسات والأجهزة.
طبعاً، في خلفية المنطق العوني أنّ القوى الشيعية ستقف مع الحليف المسيحي ليصل إلى الرئاسة، وليكون قوياً في الحكومة، وليأتي معظم النواب المسيحيين ممثلين لقواعدهم.
فالمسيحيون خسروا لأنهم استندوا إلى خيارات إقليمية معيّنة، وعودتهم عن هذه الخيارات فرصة لتصحيح الخلل أيضاً. لكنّ حسابات الحقل اختلفت عن حسابات البيدر. وبرّي لم يرغب في وصول عون إلى السلطة، وهو اليوم خصمه الأقوى في قانون الانتخاب، ومعه «الحزب».
أما الحريري فيدرك أنه سيدفع من حجم كتلته الحالية في أيّ قانون انتخاب جديد، سواءٌ لمصلحة القوى المسيحية أو الشيعية، مقابل بقائه في رئاسة الحكومة. ولذلك، هو يفضل دور الوسيط. وبالنسبة إليه والنائب وليد جنبلاط، لا بأس بأطول تمديد ممكن.
هذه اللعبة الطوائفية التي يُدار بها البلد، على رغم خروج السوريين منذ 12 عاماً، لا يمكن أن تستمر، وأكبر دليل على ذلك هو أنها كادت ستودي إلى مواجهة أهلية، طائفية، لو لم يتم احتواؤها في اللحظات الأخيرة. فماذا لو شاءت الظروف أن تقع المواجهة يوم أمس، 13 نيسان، بعدّة الاحتقان الكاملة والحَفْر في الجروح القديمة؟
أبعد من إبرة المخدر التي حقنها عون في اللعبة، والتي يدوم مفعولها إلى 15 أيار، ستكون هناك ورشة تهدئة مفتوحة لإنتاج قانون أو لتمديد تقني، بمشاركة دولية وإقليمية مباشرة. فهناك قرار واضح بمنع انفجار الكيان اللبناني... في هذه الظروف على الأقل.
وفي المرحلة الحالية، الاستقرار اللبناني مطلوب أمنياً وسياسياً واقتصادياً، ليبقى الكيان اللبناني موحّداً في الحدّ الأدنى، وفي الشكل على الأقل، فيما يُعاد رسم الشرق الأوسط بكامله.
لذلك، العيون مفتوحة على قانون الانتخاب بمقدار ما هي مفتوحة على الخلايا الإرهابية، من عين الحلوة إلى عرسال وطرابلس وسواها، ومفتوحة على الواقع المالي والمصرفي في لبنان.
لبنان يعيش على «الترقيع» منذ «الطائف»، ولكن خصوصاً منذ أن خرج السوريون تاركين للبنانيين أن يتحمّلوا المسؤولية عن إدارة شؤونهم بأنفسهم. وقد أثبت اللبنانيون أنهم يفضّلون «الترقيع»، لأنّ الحلّ لا يمكن أن يتحقّق في ظل الرغبات المتبادلة في الهيمنة على كل شيء.
قد ينتهي الفصل الحالي من الأزمة، في أيار، من دون صدام أهلي، طائفي أو مذهبي. لكنّ اللعبة ستقود حتماً إلى انفجار جديد. وعلى الجميع أن يعترف بأنّ الاستمرار في التفسير الانتقائي لـ»الطائف»، بصيغته الحالية، سيقود عاجلاً أو آجلاً إلى كارثة.
«الطائف» منحَ الطوائف «قدرات تخريبية»، فكلها قادرة على التعطيل. لكنه لم يقدِّم وصفةً للبناء. «الطائف» تسوية تتعادل فيها الطوائف على السلبيات لا الإيجابيات.
لذلك، ومن قبيل الرمزيات، كاد «الطائف» أن يشهد في 13 نيسان 2017 مقداراً من الحقد الأهلي يقارب ما كان في 13 نيسان 1975. والحلّ الحقيقي يكون بانبثاق حلّ وطني واضح وعادل ودائم على جثمان «الطائف» القديم. وقد يحمل هذا الحلّ تسمية «المؤتمر التأسيسي» أو سواها.
بعد التجربة الجديدة، هل ستختار القوى السياسية استمرار المراهنة الخبيثة على «الغموض الهدّام» في «الطائف» القديم، وهل اقتنع الجميع بأنّ اللعب بالنار قد يشعل البيت بأهله؟