من المسؤول عن سجن البلد داخل أزمة تبدّد كل هوامش المهل الدستورية؟ الإجابة عن هذا السؤال سياسية وليست دستورية، لأنّ الازمة الدستورية هي نتاج للسياسة، وفي الأساس نتاج لمسار عدم التحسّب السياسي المسبق والمسؤول لتجنّب الوصول الى هذه اللحظة التي يتمّ فيها وضع البلد أمام معادلة الصدام بين معادلتي امّا الفراغ في مجلس النواب المرفوض شيعياً، وامّا الفراغ في «هيبة العهد وفخامة الرئيس القوي» المرفوضة مسيحياً.حتى ما قبل زيارة وفد «حزب الله» الى قصر بعبدا قبل ايام، كان يوجد اقتناع بأنّ الرئيس ميشال عون والسيد حسن نصرالله سيقودان الأزمة في اللحظة الحاسمة نحو إنتاج حل لها.
ومِمّا قيل انّ هناك اتفاقاً غير معلن بينهما على قانون يعتمد النسبية، وإنّ كل ما يفعله الوزير جبران باسيل هو إثبات حضور لذاته السياسية، ومجرد تقطيع وقت من خلال تمثيل مسرحية سياسية بفصول عدة، هدفها إظهار انه قدّم كل ما في مخيّلته البراغماتية من القوانين التوافقية للأحزاب، ولكنه فشل نتيجة عدم قابلية الاخيرة على التقاط فرص إنتاج التسوية، وعليه اضطرّ «أب العهد» (عون) وداعمه الاستراتيجي (نصرالله) الى طرح قانون انتخاب إنقاذي مشترك.
مجرد تداول هذا السيناريو خلال الفترة الماضية، كان يقدّم نوعاً من الراحة للمراقبين، بخصوص انّ البلد ليس غارقاً في متاهة مقفلة، وأنّ هناك مرجعية مسؤولة تحتسب سياسياً لما هو آتٍ، ولديها «خطة ب» في مواجهة الفراغ وإحباط زخم العهد على حدّ سواء. غير أنّ الصدمة بالنسبة الى الحزب تمثّلت في أنّ الدور الذي كان يؤديه باسيل على مستوى إنتاج قانون انتخابي، لم يكن مناورة لتقطيع الوقت، بل هو كل ما في جعبة رئيس الجمهورية، وانّ «الخطة ب» للإنقاذ التي كان يضعها نصرالله في جيبه لم تجد قبولاً لدى عون شريكه الاستراتيجي.
هناك خيبة أمل مشروعة من وجهة نظر «حزب الله» وداخل بيئات نخبوية آمَنت بعون الاصلاحي، وهي تنتمي الى طوائف متنوعة. ويتم التعبير عن هذه الخيبة على شكل أسئلة أبرزها: لماذا تخلى عون عن النسبية التي تغزّل بها لوقت طويل واعتبرها مدخلاً للإصلاح والتغيير؟
أكثر من ذلك تركّز هذه الأسئلة على موقع باسيل ودوره داخل هذا التغيير، ليصبح السؤال: ماذا يريد باسيل من العهد وليس ماذا يريد عون من عهده؟
«حزب الله» الذي يواجه تعقيدات إقليمية ودولية، أخطر ما فيها هو غموض الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي بدأ يتّضح بأنه سيكون تصعيدياً ضد ايران في سوريا، وضد «حزب الله» في لبنان - بل حتى ربما ضد الصعود الشيعي فيه بعد إضافة حركة «أمل» نظرياً الى عقوبات واشنطن المالية، لم يعد في وارد المسايرة تجاه نقطة الموافقة على قانون انتخاب المختلط الذي يشكّل مقصلة لرؤوس حلفائه داخل الطوائف غير الشيعية.
أكثر من ذلك لن يسلم لأيّ طرف داخلي، حتى لو كان من محوره الاقليمي، بأن يحصل على ثلث مقاعد النواب في المجلس الجديد، ذلك انّ المتغيرات في المنطقة وعصف الرياح الدولية المتوقعة، تجعل الحزب معنياً ببناء حيثية نيابية حليفة له ومتنوعة الالوان الطائفية، تضمن عدم إمرار مخطط لطعنه من الداخل؛ وهو امر لا يتحقق إلّا من خلال جَعل «الخنجر الداخلي المسموم» موجوداً في جيبه، للتأكد من أنه لن يستخدم ضده تحت هذا الضغط الخارجي او ذاك، ونتيجة لأيّ اعتبار كان قد يستجد في غمرة المتغيّرات وانقلاباتها غير المحسوبة.
وليس من قبيل الاستنتاج اعتبار انّ ما يحدث داخل ضفة قصر بعبدا في شأن قانون الانتخاب هو أمر «صادم» للحزب، وذلك انطلاقاً من أمرين:
ـ أولهما، بروز شبهة انّ عون ينفّذ أول انقلاب سياسي لم يكن محسوباً لدى الحزب، والمقصود هنا انقلابه على النسبيّة.
ـ ثانيهما، انّ باسيل له الكلمة الفصل في خصوص رأي قصر بعبدا في القانون العتيد، وانّ الرئيس المسيحي القوي ينجذب ضمن هذه الجزئية وداخل لحظتها، للاستجابة الى خطاب مسيحي «بَشيري» (نسبة الى الرئيس الراحل بشير الجميّل) يقوله في هذه المرحلة رئيس «التيار الوطني الحر».
وانطلاقاً من هذين الاعتبارين، يبدو للحزب انّ معركة قانون الانتخاب في قصر بعبدا تُدار من زاوية وجود رغبة لباسيل في جعل مرشح «التيار الوطني الحر» لرئاسة الجمهورية المقبلة يتحرّر من حاجته للحصول على دعم «حزب الله» لنَيله الرئاسة في حال اضطرّ الى تعطيل الانتخابات حتى نيل الفوز بها بالطريقة عينها التي حصلت في حالة انتخاب عون.
لقد تمّت هندسة كل نسخ «قوانين المختلط الباسيلية» المتلاحقة، على اساس اللجوء لاعتماد النسبية فقط، في الدوائر التي توجد فيها حاجة لاسترداد النواب المسيحيين الذين ينتخبهم مسلمون، وذلك بهدف جعل انتخابهم يجري بأصوات مسيحية.
وهذا الهدف ادى الى اعتماد معيار انتخابي يُقصي حلفاء الحزب في الطوائف الاخرى من الوصول الى مجلس النواب، ويتوسّل تمثيل الاقليات الدينية داخل دوائر أكثريات اللون الواحد الطائفي، بدلاً من ان يعتمد تمثيل الاقليات السياسية حسبما يريد الحزب داخل دوائر أكثريات اللون الحزبي الطائفي الواحد او الثنائي.
أضف الى ذلك، وهذا هو الاهم، انّ «المختلط الباسيلي» تمّ صَوغه ليكون «وصفة سريعة» ليس فقط لانتخاب نواب «التيار» من دون الحاجة للصوت المسلم، بل للإتيان بثلث ضامن نيابي مسيحي يضمن ان ينتخب الرئيس المسيحي القوى في خلال انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، من دون الحاجة بالضرورة الى مساندة «حزب الله».
يتهامس الشامتون في هذه اللحظة حول ما اذا كان «حزب الله» وضع قدمه على أول «لغم عوني»، وما اذا كان استدرك الآن، وبعد فوات الأوان، جدية التحذيرات السابقة اليه حول انّ «فخامة الرئيس» سيعود سيرته الاولى قبل العام ٢٠٠٦ حينما كان جنرالاً.
يطيب لبعض هؤلاء ان يبالغ في القول انّ «نصرالله يواجه حالياً أزمة غموض ترامب وعدم توقّع تصرفاته في المنطقة، وأزمة غموض عون وعدم توقّع تصرفاته الداخلية».
في عين التينة هناك إصرار على عدم السماح بفراغ في المؤسسة النيابية الأم. رتّب الرئيس نبيه بري عدة التمديد الدستورية، معلناً بذلك أنّ مسؤوليته كحافظ لهذه المؤسسة السيادية هي معركته الاولى، وأنه لن يسمح لأحد بأن يجعل المؤسسة التشريعية تدفع ثمن فشل العهد والقوى السياسية في إنتاج قانون انتخابي جديد. في اختصار، بري لن يسمح بأن «يضرس» المجلس كمؤسسة سيادية، لأنّ السياسيين أكلوا «حصرم» فشل توافقهم على القانون الانتخابي.
لكن مرة أخرى تكمن المشكلة في انّ التحدي ليس دستورياً، بل يتضمن في جوهره تحديات سياسية عميقة لا تؤثر فقط في السلاسة السياسية التي كانت قائمة في البلد منذ بداية العهد، بل ايضاً في توازنات البلد التي تحقق استقراره.
تعتبر مقاطعة الاحزاب المسيحية لجلسة التمديد، بمثابة نوع الغياب الذي يصحّ عليه وَصف بري ذاته، بأنه نقص في النصاب الميثاقي. وتجرى محاولات لإنتاج فتوى لحلّ هذه المشكلة، وذلك من خلال نظرية تقول إنه يمكن تعويض غياب نواب الاحزاب المسيحية بحضور النواب المسيحيين المستقلين، خصوصاً أنّ عددهم يكاد يكون متقارباً.
لكن يجري في مناسبة هذا الطرح استذكار انه عندما شكّل الرئيس فؤاد السنيورة حكومة من دون حركة «أمل» و«حزب الله»، واستعاض عنهما بوزراء شيعة مستقلين، اعتبر الشيعة حينها انّ هذا التمثيل يمثّل تزويراً ميثاقياً لإرادتهم في حكومة السنيورة. والأمر نفسه تستطيع «القوات» و«التيار» والكتائب قوله اليوم، في مناسبة استعانة بري بنواب مسيحيين مستقلّين لتجاوز غيابهم.
وضمن هذا الاطار، يتّضح مرة أخرى وجود مشكلة سياسية كأداء تقف وراء الاشتباك الدستوري. والسبب العميق الذي تسبّب بها، هو حصول نوع مفاجئ للبعض ومتوقّع للبعض الآخر، من انقطاع موجة «الفهم والتفهّم» بين «حزب الله» وقصر بعبدا.
فالحزب الذي يعتبر نفسه انه موجود الآن داخل معركة إقليمية ودولية في سوريا، مفتوحة على احتمالات التصعيد وليس التهدئة، يهمّه تجنّب إعطاء اي إشارة ضعف عن موقع الشيعة في هذه المعركة. وفراغ المركز الثاني داخل مؤسّسات الدولة الذي يشغله الشيعة، قد يفضي لإشارة من هذا النوع.
وفي هذا المجال، لم يعد خافياً انّ الحزب أبلغ الى عون، في وقت سابق، انّ الفراغ في المؤسسة النيابية ممنوع. ولم يكن هذا تحذيراً لفخامة الرئيس القوي، بل لفتاً لنظره الى أهمية هذا المعطى ضمن حسابات المعركة المفتوحة التي يخوضها الحزب. ولكن يتبيّن للحزب الآن انّ عون يعتبر انّ الحسابات المسيحية في معركة عهده لها ذات الأهمية الاستراتيجية التي يوليها الحزب لاعتبارات حسابات معركته الاقليمية المفتوحة.
وتَشي هذه المعادلة بأنّ عون يعتبر انّ عهده فرصة لكي يخوض داخلياً معركة تحصين الوجود المسيحي داخل نظام الحكم في لبنان، فيما الحزب يرى انه يخوض إقليمياً معركة تحصين المعادلة الشيعية في مواجهة حروب ترامب في المنطقة.
فهل يعني هذا انّ محظور افتراق المصالح الكبرى حصل لأسباب موضوعية بين عون وحزب الله؟ أم انه لا يزال ممكناً استدراك هذا المحظور بناء على وجود إرث بين الطرفين في التعامل بنجاح مع اللحظات الصعبة؟.