كان يُحسب دخول ذلك الشاب النحيل الى مكاتب جريدة "السفير" لتسليم مقالته الافتتاحية في منتصف سبعينات القرن الماضي، إنتصاراً ما بعده إنتصار للخط الوطني والعربي، ولليسار على إختلاف تلاوينه وتنويعاته. فهو كان يخوض في سجال سياسي مباشر مع عمّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية، بوصفه رمز اليمين اللبناني وممثله في قصر بعبدا، حول النظام والحاجة الى إصلاحه، وإلغاء الامتيازات وإزالة الغبن الاسلامي وتبديد الخوف المسيحي والمضي قدماً في معركة فرضت على لبنان هي الدفاع عن المقاومة الفلسطينية.
لكن ذلك السجال سرعان ما توقف بعد خروج العمّ من الرئاسة، ودخول الجيش السوري الرادع والمانع لأي بحث جدي في معضلة النظام اللبناني، وغابت تدريجياً الافتتاحية المارونية اليسارية المميزة، التي كانت تبدو يومها آخر إرهاصات التفكر (الماروني تحديداً )في مصير لبنان، الذي كان الموارنة طائفته المؤسِسة، قبل أن يصبحوا طائفته المفكِكة.. قبل ان يحل البلاء الراهن على يد المسلمين الطامحين لوراثتهم.
لكن ترقّب كتابات البيك اليساري سمير حميد فرنجية لم يكن عسيراً، على الرغم من ندرتها في تلك الفترة وتحولها في ما بعد من السياسة الى الفكر، وما بينهما من مواثيق وبيانات تأسيسية لمعظم التيارات السياسية التي أطل منها طوال العقود التالية وسعى الى إحداث تغيير في ثقافة الحرب الاهلية وموروثاتها، من دون ان يتخلى عن نزعته التقدمية المستوحاة من الثورة الطلابية في باريس العام 1968، التي ظلت مرشداً وملهماً لتجربته ووعيه وطموحه.
والبيك الذي ضبطه الامن اللبناني يوماً وهو يهرب السلاح بسيارته الى المقاومة الفلسطينية في الجنوب قبل الحرب الاهلية، وإستخدم جذوره الزغرتاوية وتناقضاته مع المشروع الكتائبي، لكي يفلت من الاعتقال، غادر في ما بعد تلك الحقبة الفلسطينية، بل لعله كان أول اليساريين الناجين منها، من دون ان يلتحق بالجماعة اليمينية المقابلة او يمالئها، بل كان يساعدها على الخروج من العزلة والانفتاح على الاخر، لا سيما ذاك الذي أصابت منه الوصاية السورية مقتلاً.
ولعل ثقافته اليسارية الفرنسية وتجربته اليسارية اللبنانية والفلسطينية، هي التي بلورت عداءه او خصامه الثابت والدائم مع سوريا-الاسد ودورها المدمر للاجماع اللبناني المرتجى بل حتى للاجتماع اللبناني المأمول. وهنا كان سمير حميد فرنجية رمزاً متقدماً سبق جيلاً كاملاً من اليساريين واليمينيين اللبنانيين الذي إكتشفوا متأخرين خطورة تلك الشراكة بين النظامين اللبناني والسوري، ودفعوا ثمنها باهظاً. لكن ذلك الخصام مع سوريا- الاسد سرعان ما إصطدم بموجات إسلامية أسوأ من تلك التي أطلقتها الحرب الأهلية نفسها، وكانت مادة لتندر البيك ويأسه الشديد من الشركاء المسلمين الذين جرفتهم، ولا تزال، تيارات مناقضة للفكرة اللبنانية وجوهرها، ومنافية لفلسفة اللاعنف التي كانت تترسخ في ثقافته وفي وعيه، وفي كتاباته التي إستحق عليها في ما بعد لقباً هامساً وغير متداول إلا في أضيق المساحات: "غاندي لبنان".. الذي كان يبتسم له، ولا يعلّق.
لم يكن التحول نحو الفكر السياسي ترفاً. فقد إنتفض البيك عندما إغتالت سوريا-الاسد الراحل رفيق الحريري، ونزل الى الشارع وتظاهر وصاغ تحالفاً سياسياً شكل أول تجاوزٍ عمليٍ لشروخ الحرب الاهلية، لكنه سرعان ما إنزوى عندما شهد حماسة الشيعة والسنة لتجديد الفتنة المذهبية والتسبب بخراب لبناني جديد، يتخطى خراب السبعينات والثمانينات، وعندما شاهد مسارعة الموارنة خاصة والمسيحيين عامة للعودة الى دمشق، بل السفر حتى الى طهران.
بالامس إنتهت "رحلة في أقاصي العنف"، قام بها البيك طوال العقود الأصعب من تاريخ لبنان الماضية، تختزل سيرة عائلة عاشت التراجيديا اليونانية بجميع أشكالها، وطائفة عاندت مختلف توصياته بالاصلاح والتغيير، ونظام ما زال يقاوم التحديث الذي نادى به سمير حميد فرنجية منذ ستينات القرن الماضي.