العزّ والرخاء ثمّ النهاية والضياع
يرى بعض المؤرخين أن ابن شهيد لم يكن من أصل عربي، إذ أن أسرته كانت من موالي الأمويّين تخدمهم في أعلى مناصب الحكم، خاصةً في عصر الخلافة. وكان والد ابن شهيد وزيراً ونديماً للمَنْصور ابن أبي عامر في بلاطه، عُرف بسعة الاطلاع والمجون في المجالس ثم بالزهد في آخر حياته.
فتربّى ابن شهيد في عز أسرة عريقة، اشتهرت في المجالين السياسي والأدبي، وترعرع في قصر أبيه الوزير في مدينة الزاهرة.
ويذكر أديبنا بفخر العلاقة الوطيدة التي كانت تربط أسرته بالعامريّين، حتى أن المنصور قطع له تفاحة بفمه في طفولته، وأنفق المال عليه. وبقيت هذه الصلة في عهد ابنه المظفر الذي أخذ زمام السلطة بعد وفاة أبيه.
ولكن الفتنة التي أنهت الحكم الأموي ضيّعت العز والرخاء الذي نشأ عليه، ووجد ابن شهيد نفسه باكياً أطلال ما مضى، مسلوباً القدرة على مغادرة قرطبة كما فعل غيره من أدباء وعلماء جيله، كابن حزم صاحب طوق الحمامة.
وظل ابن شهيد مدافعاً عن الأمويين وعن المنصور وسلالته، رغم نهاية عهدهم وتوالي الحكام من بعدهم، إلى آخر أيامه. إلا أن هذه المأساة أثّرت على شعره تأثيراً قوياً، فكتب أول رثاء لعاصمة الخلافة الأموية بالأندلس، مما قال فيه:
يا جنة عصفت بها وبأهلها ريح النوى فتدمرت وتدمروا
حزني على سرواتها ورواتها وثقاتها وحماتها يتكرر
نفسي على آلائها وصفائها وبهائها وسنائها تتحسر
ومع كل التغيرات التي هزّت الأندلس، وجد ابن شهيد نفسه في السجن، فقارن ما حلّ به، بالمتنبي وما كان بينه وسيف الدولة.
رسالته في التوابع والزوابع
كسب ابن شهيد منزلة أدبية رفيعة في الشعر والنثر، وكان ذلك خاصة بفضل نص عرف بـ"رسالة التوابع والزوابع"، وصلنا جزء منه في كتاب الذخيرة لابن بسام، وهي رسالة سبقت رسالة الغفران التي كتبها المعري ببضع سنوات.
يقوم فيها الأديب الأندلسي برحلة خيالية إلى وادي عبقر ليلتقي بـ"توابع" أشهر شعراء العرب وكتّابها من الجنّ. كما يكتب فيها ابن شهيد نظرته النقدية، ويفتخر بأدبه أمام خصومه الذين يخاطبهم بالسخرية والهجاء.
وفيها يدافع ابن شهيد عن أسلوبه الأدبي الذي كان يُحسد عليه، فهو شديد الافتخار بنفسه، يعتمد بكثرة على ذاكرته وذكائه، يتباهى بأنه لم يتبع منهاجاً علمياً في دراسته وأنه لا يُعرف له شيخ.
ونجد ذلك في حديث له مع أحد الجن، "قال: فطارِحْني كتاب الخليل. قلت: هو عندي في زنبيل. قال: فناظِرْني على كتاب سيبويه. قلت: "وسخت" الهرة عليه، وعلى شرح ابن دَرَسْتَوَيه".
كان متمرد الطبع، في شبابه، إلى درجة أنه كان يَعتبر المعلّمين والنحاة "حسّاداً" للأدباء، لأنهم في رأيه لا يحسنون الكتابة والشعر، ولذلك ينهمكون في التصنيف والتأليف، بدلاً من الإبداع ثم يملؤون رؤوس تلاميذهم بعلم لا يفهمون منه شيئاً.
فيقول عن معاصريه في رسالة أخرى من رسائله: "سقطت إليهم كتب في البديع والنقد، فهموا منها ما يفهمه القرد اليماني من الرقص على الإيقاع والزمر على الألحان".
وفي نفس الوقت يعتبر ابن شهيد نفسه فريد زمانه، فيقول عن كلامهم: "ليس لسيبويه فيه عمل، ولا للفراهيدي إليه طريق، ولا للبيان عليه سِمة، إنما هي لُكنة أعجميّة، يؤدّون بها المعاني تأدية المَجوس والنَّبط"، فيصيح به تابع الجاحظ عندما يسمع منه ذلك: "إنّا لله! ذهبت العرب وكلامها!"
فهل نحن أمام شاب متمرد من الطبقة الاجتماعية العليا قد تغلب عليه الزهو بنفسه؟ أم أننا أمام أديب عبقري ضاق به زمانه؟
تجوّلات قرطبي في أرض الجنّ
ويركب ابن شهيد مع صاحب له من الجن جواداً يطير بهما إلى أرض التوابع والزوابع، فيقول: "سار بنا كالطائر يَجْتاب الجوّ فالجو، ويقطع الدَّوَّ فالدو، حتى التمحتُ أرضاً لا كأرضنا وشارفتُ جَوّاً لا كجوّنا، متفرّع الشجر، عطِر الزَّهر،" عندها يقول له صاحبه: "حلَلْتَ أرض الجنّ أبا عامر".
وفي هذه الأرض الخيالية، أو الحقيقية في خيال ابن شهيد، يقوم بزيارة توابع شعراء الجاهلية والعصر العباسي، الذين يعترفون له بعبقربته.
فيجد أبي نواس بين كنائس وحانات يشرب الخمر منذ عشرة أيام فيفيقه القرطبي من سكره، وينشد عليه شعره إلى أن يرقصه، فيقول له شاعر الخمر مقبلاً بين عينيه: "هذا والله شيء لم نُلْهَمْه نحن".
ثم يذهب إلى المتنبي الذي يجده على فرس بيضاء مرتدياً على رأسه عمامةً حمراء وفي نظرته تيه وكبرياء، فينشده من شعره إلى أن يقول له أمير الشعراء: "إن امتدَّ به طَلَقُ العُمُر، فلا بدَّ أن ينفث بدُرَر".
ولا يقتصر ابن شهيد على فحول الأدباء بل يذهب لمناظرة حمار الجن وبغالها فيمثل بهم خصومه ويسخر من سخفهم وحمقهم.
مع ما نعرفه عن تمسك ابن شهيد بذكرياته عن آخر أيام الأندلس الموحدة تحت شعار خلافة عربية، يمكننا أن نفهم هذا النص الأدبي الذي يرحل به كاتبه إلى عالم الخيال ليجد في الماضي المجيد تبريراً لشعوره بالوحدة، فهو يمثل الشعور بالفخر لشاعر في عنفوان شبابه قبل أن يذوق مرارة التمزق والضعف.
توفي ابن شهيد شاباً، لم يتجاوز الثالثة والأربعين من العمر، وبقي ذكره في المصادر مترافقاً مع الهزل والمجون كأبيه، وهو القائل مبرراً موقفه من الحياة:
وما ضرَّه إلا مُزاحٌ ورِقَةٌ ثنته سفيهَ الذِّكر وهو رشيدُ
فإن طال ذكري بالمُجون فإنني شقيّ بمظلوم الكلام، سعيد
وإننا نجد في هذا الرمز الثقافي من تراثنا كيف تمنح قوة الدولة وتماسكها مجالاً للمجالس الأدبية أن تحتضن شخصيات متمردة وفريدة كابن شهيد، الذي تجرأ حتى على نقد علماء عصره، فوجد مكانته البارز في المصادر، رغم عدم تأقلمه عند تغير الأحوال وانقضاء عبقريته بين عالم الجن والفتنة وفناء الخلافة الأموية.
المصادر: رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي، لبطرس البستاني؛ ديوان ابن شهيد الأندلسي ورسائله، لمحي الدين ديب.