مع رحيل سمير فرنجية، نتذكره بالأثر الطيب الذي تركه بيننا وبالفكر الذي يضيء عالمنا على الحوار والسلام والتعايش .
سمير فرنجية لبى دعوة المركز العربي للحوار العام الماضي للمشاركة في مؤتمر حماية التعددية والعيش معا، وكانت كلمته مساحة مشرقة وملهمة لأعمال وتوصيات المؤتمر.
وفيما يلي نص هذه الكلمة :
لم نكن ندرك قبل اندلاع الثورة السورية حجم التنوع الذي يتميز به المشرق العربي، وكنا نعتبر أن لبنان بطوائفه ال17 يشكل استثناءً.
في حقيقة الأمر شكل لبنان استثناءً لأنه كان الوحيد الذي أقر بتنوع مجتمعه في وقت رأت الأنظمة الإستبدادية في التنوع خطراً يتهدد سلطتها، فعمدت إلى فرض توحيد قسري.
غير أن هذه الأنظمة الرافضة الإقرار بالتنوع في مجتمعاتها عملت على استغلال التنوع في مجتمعات ودول أخرى لتأمين مصالحها بطريقة غير مشروعة.
فالنظام السوري استغل التنوع الطائفي في لبنان لأحداث نزاعات من شأنها أن تتيح له فرض وصايته على لبنان.
واسرائيل التي تطلب من الجميع الإعترافات بيهودية الدولة العبرية دون أي اعتبار للتنوع القائم عندها عمدت منذ زمن بعيد إلى ضرب النموذج اللبناني في العيش المشترك بإعتباره نقيضاً للنموذج الذي تسعى إلى فرضه. أما ايران، فقد عملت على توظيف التنوع القائم في العالم العربي لإنشاء " هلال شيعي "يدور في فلكها.
الإقرار بالتنوع يبدأ بإقراره داخل الإنسان الفرد قبل اقراره داخل المجتمع.
فهوية الإنسان هي هوية مركّبة تحتوي على إنتماءات متعددة (عائلية، مهنية، وطنية، طائفية، ثقافية، إنسانية...)، وهذه الهوية المركبة ليست تراكماً عشوائياً للإنتماءات الصغرى إلى الدائرة الكبرى إلا إذا اطمأن إلى حضوره في الإطار الأوسع، واطمأن في الوقت ذاته إلى أن هذا الإنتقال لن يجعله يفقد الإطار السابق.
إن اختزال الهوية بأحد مكوناتها يؤدي إلى احداث فصل غير طبيعي بين دوائر الإنتماء المختلفة للإنسان ويضعف تماسك شخصيته وتكاملها، ما يدفعه عند الأزمات إلى الهروب إلى دائرة الإنتماء الوطني لدى الشخص، نراه يهرب إلى دائرة أوسع (قوية أو أممية) أو أضيق (طائفية أو عائلية أو مناطقية).
يحتاج الإقرار بالتنوع إلى صيغة سياسية تضمن عيشاً مشتركاً بين مكونات هذا التنوع، فتجمع بين ما هو مشترك وبين ما هو خاص بكل مجموعة، وتربط تالياً بين المواطنة التي يعني بها الجميع والتنوع الذي هو شأن كل جماعة من الجماعات.
في الحالة اللبنانية، هناك صيغة وضعها اتفاق الطائفية (1989)، وهو الإتفاق الذي أنهى الحرب اللبنانية، تربط هذه الصيغة شرعية السلطة بقدرتها على حماية العيش المشترك الذي يمثل أساس العقد الإجتماعي. ومفهوم الشرعية هذا جديد تماماً على وعي اللبنانيين، إذ بموجبه لم تعد الشرعية قائمة على إرادة الطوائف المتعاقدة في لحظة تاريخية معينة، بل أصبحت مؤسسة على واقع العيش المشترك، المتحقق والمتطور على الدوام. بعبارة أخرى لم تعد الشرعية مؤسسة على حدث تاريخي، وإنما على واقع راهن، وأصبحت بالتالي عُرضة لمساءلة مستمرة حول مدى قيامها بواجب المحافظة على العيش المشترك. علماً أن هذا الواجب ليس عملاً يتمّ لمرة واحدة وإلى الأبد، بل هو مهمة قيد الإنجاز الدائم.
إن الإقرار بالتنوع يحتاج إلى التصدي لثقافة الفصل والإلغاء السائدة على نطاق واسع بثقافة أخرى هي ثقافة الوصل والإنفتاح على الآخر، ثقافة تساعد على مواجهة التحدي الذي يواجهنا اليوم في لبنان كما في العالم العربي والذي يتلخص بالآتي: كيف نعيش معاً متساوين في حقوقنا والواجبات، متنوعين في انتماءات الدينية والأثنية و الثقافية، و متضامنين في سعينا المشترك نحو مستقبل أفضل لجميعنا؟
كيف تعبر هذه الثقافة عن نفسها في الحالة اللبنانية؟
ثقافة الوصل والإنفتاح على الآخر ترى أن حقوق المواطنين يجب أن تكون متساوية في المطلق، وترى أن الطوائف في لبنان هي جماعات يجب أن تحظى جميعها بضمانات متساوية، وأن حمايتها و حماية أفرادها تأتي من وجود دولة توكل إليها مهمة توفير الأمن للجميع، أما ثقافة الفصل والإلغاء فتنظر إلى الطوائف على أنها أقليات مهددة بYستمرار في وجودها وحضورها الحرّ، و بالتالي فإن على كل واحدة منها السعي لتأمين حمايتها بمعزل عن الآخرين وغالباً في مواجهتهم.
- ثقافة الوصل والإنفتاح على اللآخر تقوم على التعددية و الإنفتاح الثقافي و التفاعل، وهي قد طوّرت أسلوب حياة في لبنان لم يكن من السهل تحقيقه في أي مكان آخر، مقدمة بذلك مساهمة أصيلة في إغناء الحضارة العالمية، في سعيها الدؤوب إلى بيئة إنسانية أفضل، وهو أسلوب حياة يؤمن للإنسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر بحيث تغتني شخصية من تلقيها جديد الآخر، وتغني هي بدورها شخصية الآخر، وذلك دون إلغاء للخصوصيات و الفوارق التي تصبح في هذه الحال مصدر غنى للجميع، أما ثقافة الفصل والإلغاء فتقوم على قسمة العالم إلى معسكرين: خير و شر، إيمان و كفر، وهي تدفع الإنسان إلى الخشية من العيش مع الآخر المختلف و إلى الإصتفاف، بلا شروط، خلف القوى الأشد تطرفاً في بيئته، تارةً بإسم المبادئ الكبرى، وتارةً بإسم الإخلاص لإنتماءات قومية أو طائفية أو حزبية ضيقة. هذه الثقافة في لبنان تستغل عاملي الكبت و الخوف لدفع الطوائف إلى التماس " حمايات خارجية "، في محاولة لتعديل موازين القوى الداخلية، بدعم من الخارج و وفقاً لشروطه. هذا ما حصل في الأمس، وهذا ما هو حاصل اليوم.