بعيدا عن النشوة العاطفية، والمواقف المنطلقة منها، هل كانت الضربة الأمريكية من أجل أطفال خان شيخون الذين قتلهم كيماوي الأسد؟ وهل كان الهدف منها إلحاق الأذى بالنظام السوري أم تأديبه فقط؟ ثم هل تعكس الضربة تغييرا حقيقيا في تعاطي الولايات المتحدة تجاه الملف السوري؟ وما هي المكاسب التي حققتها إدارة ترامب منها؟ وغيرها الكثير من الأسئلة المثارة حول حادثة من العيار الثقيل كهذه.
قبل أربعة أيام فقط من مجزرة الكيماوي في خان شيخون، والتي استشهد خلالها نحو 100 مدني، صرّحت نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة أن إزاحة نظام الأسد، لم تعد أولوية بالنسبة لبلادها، وكان هذا التصريح معبّرا عن سياسة إدارة ترامب تجاه الملف السوري، وفسّر البعض الأمر بأنه كان بمثابة ضوء أخضر للنظام السوري للاستمرار في مجازره بحق السوريين، لكن حسابات الأسد خانته عندما عاد مجددا لاستخدام الكيماوي، بعد أن تلقى تحذيرا عند استخدامه للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات، في مجزرة الغوطة بريف دمشق.
استخدام الأسد للكيماوي في خان شيخون كانت الركيزة الأساسية التي استند عليها الرئيس الأمريكي ترامب لتوجيه ضربة عسكرية محدودة للنظام السوري، لتحقيق عدة أهداف في وقت قياسي، وهدف الضربة الذي صرح به ترامب، كان حماية الأمن القومي الأمريكي، وتأديب النظام لتجاوزه الخطوط الحمراء، وليس تعاطفا مع أهالي خان شيخون، فترامب أيضا مجرم قتل المئات من أهالي الموصل، كما قتل الأسد مئات الآلاف من السوريين، لكن نقطة الخلاف تكمن في ضرورة عدم استخدام الكيماوي كوسيلة للقتل، وليس في ضرورة توقف القتل، أو وسائله الأخرى.
اختار ترامب هدف الضربة بعناية، وهو مطار الشعيرات العسكري ثاني أكبر قاعدة عسكرية للنظام السوري في البلاد، ومنه أقلعت الطائرة التي نفذت مجزرة الكيماوي في خان شيخون، غير أن الضربة لم تكن مفاجئة، إذ جرى التنسيق لها مسبقا مع روسيا، وأخلي المكان من العناصر البشرية، تجنبا لأي تصعيد بين الطرفين الروسي والأمريكي، لكن ذلك يعني بالضرورة أن موسكو رضخت للأمر الواقع، ولم تستطع فعل شيء حيال الضربة الأمريكية، رغم امتلاكها قاعدة صواريخ "إس300" المتطورة، التي صدّعت بها العالم.
ويمكن القول إن إدارة ترامب نجحت في إيصال رسالة قوية للروس، بأن عليهم إدراك أن الولايات المتحدة لا زالت قادرة على فرض إرادتها في سوريا بشكل أكبر مما فرضته روسيا في السابق، ومايؤكد ذلك الإمتعاض الكبير الذي أبداه الروس تجاه الضربة، ومحاولتهم الاحتفاظ بهيبتهم، أمام الرأي العام، والتي نسفتها صواريخ التوماهوك، أكثر من نسف المطار نفسه، ولذلك أدرك الأسد صغر حجمه وأن الصراع بين الكبار، فاكتفى ببيان هزيل أكد فيه على محاربة الإرهاب.
ترامب أيضاً انتهز فرصة مذبحة الكيماوي، ليعيد اعتباره كرئيس قوي للولايات المتحدة، بعد أن فشل في تنفيذ قرارته بشأن منع مواطني دول إسلامية، من دخول البلاد، وظهر كرئيس عاجز لا يستطيع تنفيذ قرارته، وأصبحت شخصيته المثيرة للجدل، وحياته العائلية محط أنظار وسائل الإعلام، لذلك وجد في الضربة التي وجهها، أمراً مهماً، لإعادة صورته المجنونة، والقوية، التي يمكنها فعل ما تريد في الوقت في المناسب.
كما كسب ترامب من خلال الضربة العسكرية، تأييد حلفائه في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً دول الخليج، بعد أن شهدت علاقتها بالولايات المتحدة ركوداً غير مسبوق خلال إدارة أوباما التي اتسمت بالتردد في الملفات الحساسة، فضلاً عن أن الضربة أوصلت رسائل قوية إلى طهران، بضرورة التعاطي مع أمريكا الجديدة، والأهم من ذلك رغبة ترامب في التخلص من الأسلحة الكيميائية السورية، لحماية الكيان الصهيوني مستقبلاً، في حال إسقاط الأسد، وتولي سلطة جديدة الحكم.
مكاسب ترامب التي حققها خلال أربعين دقيقة تقريباً، من خلال ضربة عسكرية محدودة، كان من الصعب عليه تحقيقها من خلال أشهر ربما، ومن المرجح أن موازين القوى في سوريا، لن تخرج عن التنسيق الأمريكي الروسي، طالما التزم الأسد بالقانون الدولي، ولم يستخدم الأسلحة المحظورة، في قتل السوريين، فإن حدث ذلك فلن تهتم إدارة ترامب لأي مجارز جديدة يرتكبها الأسد، وسيستمر القتل باستخدام كل الاسلحة عدا ماهو محظور فقط، وفي خضم هذه اللعبة الدولية، يبقى الشعب السوري هو الضحية دائماً.