في صبيحة يوم الثلاثاء الرابع من شهر حزيران من عام 2017 نفذت طائرة تابعة للقوات الجوية التابعة لنظام الأسد من نوع سوخوي 22 هجوماً على الحارة الشمالية في مدينة خان شيخون بأربعة صواريخ مشحونة بمادة السارين السامة, نتج عنه أكثر من مئة شهيد بينهم أطفال ونساء وأكثر من 400 مصاب, نتيجة لاستنشاق الغاز السام.
كانت المشاهد المتواترة من خان شيخون قاسية لدرجة أنها شغلت عناوين الاخبار الرئيسية على مستوى كوكب الأرض, وبات الحديث عنها الشغل الشاغل لسكان هذا الكوكب بداية بزعمائه وإنتهاءً بشعوبه، طُبعت صور الأطفال الذين يكافحون لإلتقاط أنفاسهم الأخيرة في مخيلة البشرية في صور ستبقى لمدة طويلة في ذاكرة البشرية كدليل على ما يمكن للعقول الاجرامية فعله في حال امتلكت الأدوات وضمنت عدم المحاسبة.
كان أول تعليق للنظام بعد الحادثة بساعات عندما تصدرت أخبار الجريمة عناوين الأخبار، حيث تريث قليلا ليرى ردود الفعل التي لم يتوقعها بهذه القوة، كان الرد البائس على شكل بيان صادر عن الناطق الرسمي لجيش النظام, بسطور قليلة لم يكلف فيها نفسه عناء تدبّر حجة يمكن حتى لعقول مناصريه قبولها، حيث استندت روايته على إستراتيجية الإنكار فقط عبر جمل المزاودة بالشرف الذي يتحلّى به هذا الجيش وهو الامر الذي يرفضه غالبية الشعب السوري وتشكك به غالبية البشرية بعد 6 سنوات من القتل المنظم للشعب السوري على يد هذا الجيش.
إقرأ أيضًا: يُعاقب النظام السوري على جرائمه، والروسي على اختلاق الأعذار
التعليق التالي أتى من موسكو بعد ساعات من البيان السوري، وكان على شكل بيان للجيش الروسي أكد فيه كذب رواية النظام، مشيراً إلى أن النظام نفذ بالفعل هجمات على مدينة خان شيخون، لكنه اجتهد في تقديم رواية تستند الى عقلية المخابرات السوفياتية عبر التأكيد على ان طائرات النظام قصفت مستودعا وورشة تستخدمها قوات المعارضة لتصنيع السلاح الكيماوي الامر الذي أدى لوقوع هذا العدد من الضحايا، لتعود روسيا فيما بعد وتعدل صياغتها لاعتبار أن النظام غير مسؤول أبداً عن الضربة الكيماوية.
دولياً سارعت جميع الدول لإصدار البيانات المنددة بالهجوم الكيماوي حتى تلك التي تدعم نظام بشار الأسد، لكن هذه الدول أخذت رواية الروس في محاولة لحرف الأنظار عن هذه الجريمة، وتم عقد جلسة لمجلس الامن لدراسة مشروع قرار امريكي فرنسي بريطاني يدعو لإجراء تحقيق دولي عاجل دون تحميل المسؤولية لنظام الأسد مبدئيًا، إلا أن تلويح موسكو بإستخدام حق النقض الفيتو أدى لسحب هذا القرار من التصويت، خصوصًا بعد بيان مندوب موسكو في المجلس والذي كاد خلاله أن يخرج سلاحًا ليقتل الحاضرين لدرجة تأثره وعصبيته.
الملفت للموضوع هو ردود فعل إعلام النظام والاعلام الشيعي الطائفي التابع والمساند له، حيث حاول هذا الاعلام تفنيد الضربة أصلا وراح يلقي النكات السمجة حول الموضوع في محاولته اقناع القطيع المتابع له بأن ما يجري كله كذب ومؤامرة على النظام، وراحت عقول هذا الفريق تجتهد في جمع الصور وتوضيح مواطن الضعف في الفيديوهات والصور عبر تبريرات أقل ما يقال عنها أنها سخيفة، لكن السمة الطاغية كانت في تعدد الروايات التي قدمها المعلقون في هذا الإعلام في حالة كبيرة من التخبط.
ثم جاءت الضربة الأمريكية لقاعدة الشعيرات الجوية، والتي رأى فيها إعلام النظام طوق النجاة في رفع معنويات قطيعه ليؤكد لهم انه نظام مقاوم ممانع يتعرض لمؤامرة كونية لبست خلالها قنوات الإعلام لباس الضحية ووضعت وجه المسكنة، يساندها جوقة من القومجيين واليساريين والشيوعيين العرب في عدد من الدول العربية، ليتحول خطاب هذا الإعلام الى لهجة الصمود والتحدي خصوصًا بعد التصريحات الروسية بدعم النظام على طول الخط.
أشار تقرير اللجنة الدولية المعنية بتسلّم المخزون الكيماوي للنظام السوري إلى أن النظام لم يتعاون بشكل كامل مع التحقيق ولم يسمح لفرق التفتيش بالدخول الى عدد من المواقع التي طلب الدخول إليها, في خرق واضح للقرار الدولي 2118 وهو الامر الذي غطّت عليه موسكو مؤخرا بتلويحها باستخدام الفيتو.
إقرأ أيضًا: أطفال شيخون يصرخون: يا لعار الفيتو الروسي-الصيني، والخذلان الأميركي.
في الوقائع والتقارير الواردة عن الحالات المنقولة الى تركيا والتي تم تشريحها بحضور وشهادة مراقبين دوليين تم تأكيد أن الوفيات قد تمت نتيجة استنشاق غاز سام يرجّح أنه غاز السارين, وبينما كانت الرواية الروسية هي المعتمدة في خطابات إعلام النظام والإعلام المساند له حول قصف مستودع للمواد الكيماوية، فقد خرجت شهادات من مختصين بالأسلحة الكيماوية تكذّب الرواية الروسية عبر التأكيد على أنه غاز السارين لا يمكن له الإنتشار في حالة التخزين حتى لو تم قصفه، وأنه يحتاج إلى مدة سابقة لاستخدامه لينتشر، إلا ان هذه الأدلة العلمية لم تلقى آذاناً صاغية من طرف روسيا والنظام.
في الحقيقة ان ما جرى كان سوء فهم من قبل النظام لتصريحات المندوبة الأمريكية في مجلس الامن والتي قالت فيها ان إسقاط نظام بشار الأسد لا يشكل أولوية للإدارة الامريكية وان أولوية ادارتها تكمن في محاربة الإرهاب، فكان أن قام النظام بضربته الكيماوية لاختبار جدية التصريحات الأمريكية استباقا لعملية كبرى لإبادة السوريين المعارضين لنظام الأسد الذي سعى النظام لتجميعهم في محافظة إدلب السورية ليقوم بمجازر كبرى يظن النظام أنها كفيلة بتحقيق الحسم العسكري الذي سعى له النظام.
دونالد ترامب وجد الفرصة المواتية السانحة لإصابة عدة عصافير بحجر واحد، بداية من حل مشاكله الداخلية المتعلقة بعلاقة موسكو بتزوير الإنتخابات الأمريكية، إلى استعادته للهيبة الأمريكية التي ضيعتها إدارة أوباما الضعيفة، الى زيادة شعبيته في الأوساط الامريكية عبر ظهوره بمظهر الحامي للإنسانية، الى توجيهه ضربة لإيران عبر قصف أحد المطارات الذي تديرها ايران في سوريا, الى توجيهه رسالة قوية لبوتين الى غيرها الكثير من المصالح.
لا يمكننا التنبؤ بما سيجري خلال الأيام والاسابيع والشهور القادمة ولا يمكننا قياس رد الفعل الأمريكي على المدى القريب والمتوسط من خلال هذه الضربة، لكن ما نحن متأكدون منه أن الوضع السوري قبل خان شيخون مختلف تماما عما بعد خان شيخون، واعتقد أن ما يجري هو سلسلة من الاحداث المتفق عليها ما بين إدارة ترامب وما بين إدارة بوتين لإنجاز الإخراج الختامي للمشهد السوري الطويل، هو يتراوح حسب مراكز أبحاث وخبراء ما بين تشكيل مجلس عسكري للحكم في سوريا وهو الخيار الأرجح وما بين فرض خروج بشار الأسد مع مجموعة من مساعديه وإقناع المعارضة بقبول حكومة مناصفة تحافظ على تعهدات والتزامات بشار الأسد بالحفاظ على أمن إسرائيل أولا وتقديم الخدمات الكبرى في المجال الأمني، في المقابل هناك الكثير مما يمكن فعله لاحقًا لإستمرار الاستهداف ليشمل ايران بعد تمددها لأكبر من الحجم المسموح لها به وهو الأمر الذي سيكون له تبعات على محور الشر الممتد من طهران الى ضاحية الإرهاب في بيروت مرورًا بالعراق وسوريا، وهو ما سيترتب عليه هزيمة كبيرة لهذا المحور تعيد ترتيب أوراق الشرق الأوسط وفق قواعد الاشتباك الامريكية الروسية وتحافظ على مصالح الولايات المتحدة وتسمح لروسيا بالحصول على جزء من الكعكة.
إقرأ أيضًا: خان شيخون، بشار - كويت، صدام
تقف منطقتنا في هذه الأوقات فوق برميل باردو قابل للانفجار في أي لحظة نحو صراع دامٍ يكون محرقته مكونات المنطقة من أكراد وسنّة عرب وشيعة، لكن ما نحن مقبلون عليه بكل تأكيد وضع تركيا على قائمة الانتظار لتكون الهدف التالي بعد تصفية اللاعبين جنوبا وشرقاً، وبناء على حدود جديدة تتشكل فيها دول جديدة وتختفي الدول القديمة، لتسير جميع منظومة الشرق الأوسط حسب الإرادة الامريكية، بما يضمن امن إسرائيل الى الابد ويحقق المصالح الامريكية بصورة مستدامة.
كل هذه التنبؤات هي ما يتم التخطيط له, لكن تبقى إرادة شعوب المنطقة في رفض هذه الخطط، والاهم إرادة الشعب الإيراني في اسقاط نظام حاخامات قم أساس الإرهاب فيهذه المنطقة وهو ما سيخفف من الكوارث المقبلة على الجميع, ومن هنا تبرز أهمية اتحاد شعوب المنطقة لتقوم بالتغيير قبل ان يقوم العالم بتغييرهم.