لا يمكن اختزال ظاهرة تنظيم «داعش» إلى جذر استخباراتي فقط لا غير، وإعفاء الذات من ضرورة تعقب التشكيل الأيديولوجي – الاعتقادي الذي تنبني عليه هذه الظاهرة، فضلا عن الأسباب الموضوعية للالتحاق بها من قِبل عشرات آلاف الشبان عبر العالم. وحتى بالنسبة إلى الجذر الاستخباراتي نفسه، لا يمكن الاكتفاء بإرجاعه إلى أصل واحد فقط لا غير، لأنّه أساسا لا يمكن لأي ظاهرة تتعاطى العنف العابر للبلدان أن تكتفي «بشريك استخباراتي واحد».
بالتوازي، في لحظة تقلّص رقعة سيطرة «داعش»، يظهر أكثر فأكثر أن لذلك تداعياته الوجودية على النظام البعثي – الساريني في سوريا، وتداعياته العميقة على الكيفية التي يمكن بها إعادة تشكيل العراق من دون «داعش»، إنّما من دون إعادة النظر في الغلبة المذهبية الاستبعادية لثلث العراقيين، والمستتبعة أكثر فأكثر للتوسعية الإيرانية.
كلما تقلّصت رقعة «داعش» أكثر صارت المشكلة وجودية بالنسبة إلى نظام البعث الساريني أكثر.
حتى إذا تفاءل هذا النظام بتغيير في البيت الأبيض بوصول دونالد ترامب الذي كان يعطي الأولوية لمحاربة «داعش» على محاربة بشار الأسد، قاس الأخير الأمر على أنه يعني تجاوز كل خط أحمر مجددا في القتل مع المسلحين المنتفضين عليه.
ولم يكن الهجوم الكيماوي على خان شيخون الأول من نوعه بعد تصديق المجتمع الدولي على إتلاف نظام البعث لترسانته الكيماوية، فالنظام أعاد استخدام غاز السارين بكميات محدودة لكن موزعة على نقاط مختلفة من خارطة اشتباكاته. لكن الهجوم على خان شيخون كان بجرعة أكبر، وموثقا بطريقة أفضل، وبشكل تهافتت تلقائيا كل رواية تريد أن تتستر عليه، وبشكل دفع دونالد ترامب رأسا إلى التعجيل بتغيير موقفه من بشار الأسد، شأنه في ذلك شأن قادة غربيين كثر، كل واحد منهم جرّب إعطاء «فرصة» لبشار في يوم من الأيام، ثم ندم عليها بعد ذلك.
ترامب أعطاه فرصة أكبر بكثير في وقت كانت فظائع السفاح قد بلغت حدا أقصى؛ من خلال تدمير شرق حلب وتهجير أبنائها. لكن ترامب نفسه الذي عاد ودشن أول فعل عنفي لإدارته بعد أشهر قليلة على وصوله إلى البيت الأبيض بضربة صاروخية لقاعدة سورية. لا يعني ذلك أن ترامب قد عدل من تفكيره من أن الأولوية هي لمحاربة «داعش» على محاربة بشار الأسد، لكن ترامب وجد أنّه في معرض مكافحة «داعش» ثمة جرعات تأديبية لا بد منها ضد بشار الأسد. حتى الروس، حماة بشار الأسد، يجدون أنفسهم مضطرين بين الفينة والفينة لتأديبه، لأنه من وجهة النظر الروسية فوّت هذا الرجل عليهم فرصة البناء على الحسم في حلب للإسراع في تسوية سياسية سورية خارج نطاق جنيف، وخارج نطاق الأمريكيين والغربيين.
ما حصل في الأيام الأخيرة هو ضربة موضعية نعم، لكن الأهم منها هو ربط مصير «داعش» بمصير بشار الأسد. لا يزال ترامب يعتبر ان الأولوية لمكافحة «داعش»، لكن لم يعد بقاء بشار الأسد هو حظه من هذه المكافحة، بل العكس. ينبغي أن يضعف نظام آل الأسد أكثر بكثير مما هو عليه من حالة احتضار دموي، كي يسهل متابعة المعركة مع «داعش» وحسمها بشكل واضح وواسع النطاق.
في المقابل، هذا الوعي بوحدة المسار والمصير بين «داعش» وبشار الأسد تحوّل إلى وعي مشترك لكل منهما. يكفّر بعضهم البعض، يكرهون بعضهم البعض، ليس هذا المهم الآن. الأهم أنّ مصير الواحد معلّق بمصير الآخر. ليس «داعش» واحدا من هذه التنظيمات والمجموعات التي يحرّكها نظام آل الأسد «على كيفه»، لكنه اليوم تنظيم يحارب عن وعي وتخطيط على أساس أنه سينجو من الطوق المتشكل ضده إن هو أعان نظام آل الأسد على أعدائه.
ما هي الآفاق الممكنة للتعاون المشترك ضمن وحدة المسار والمصير هذه بين «النظام» و»التنظيم»؟ آفاق كابوسية ما لم يتحول الترابط بين مكافحة «داعش» ومكافحة النظام الساريني إلى قناعة دولية وإقليمية واسعة. آفاق لا تكتفي فقط باستهدافات إرهابية دموية جديدة للتنظيم، بل أخطر ما فيها هو تمرير النظام بعضا من أسلحته الكيماوية إلى «داعش» نفسه.
... يذهبان معا.