يتباهى الغرب على غيره من أمم العالم بأن حرية الرأي والتعبير مصانٌة لديه ومكفولة للجميع، إذ إنها ترتقي إلى مرتبة القداسة الممنوع المس بها، أما سوى ذلك فقابل للنقاش والمساومة. وقد كانت منظومة القيم الغربية محطَ إعجاب وتقليد الآخرين لأسباب عدة، ليس أولها التماهي مع ثقافة المنتصر ولن يكون آخرها الإعجاب بهذه المنظومة كأسلوب عصري لحياة كريمة للإنسان.
من نافل القول أن حرية الرأي والتعبير هي أهم شيء يتمتع به الفرد والمجتمع على حد سواء. ولكن الحرية يجب أن يكون لها حدود وضوابط. فالحرية إذا تجاوزت حدود الآخر، فإنها تنتهي وتفقد قيمتها النبيلة والسامية. إذ لا يجوز أن نحوّر مفهوم الحرية، لنجعلها آلة هدامة هدفها الإساءة إلى الآخرين واستفزازهم، وخلق فوضى وتصدع بين الأمم بحجة حرية الرأي، ما يفرغ هذه القيمة من مضمونها الحقيقي.
إن الهدف الأساس من وراء حرية الرأي كان ولا يزال احترام حياة الإنسان، وصون كرامته وحقه في التعبير عما يقلقه بغية تصويب المسار وإصلاح أي اعوجاج في المجتمع، وليس من أهداف هذه القيمة أي خلفية للإساءة أو إثارة المشاكل بين الخلق، إذ لطالما قيل إن حرية الإنسان تقف عند حرية أخيه الإنسان في كل مناحي الحياة لا سيما حرية احترام المعتقد وعدم المساس بمشاعره الدينية.
ما حدث من عرض فيلم مسيء للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو عمل حاقد ومغرض على حد سواء، حاقد لأنه يصوّر رمزاً من رموز الحضارة الإنسانية بصورة بشعة، ومغرض لأنه أرادَ استفزاز المسلمين وإثارةَ مشاعرهم ودفعِهم للقيام بأعمال متشنجة وانفعالية ضد المصالح الغربية من شأنها أن تشوه صورة الإسلام السمحة، وأن تجعل من هؤلاء الانفعالين مادة دسمة تستخدم لشحذ مزيد من الحقد والكراهية على الإسلام ما يوسع من شقة التصادم الحضاري بين الإسلام والغرب.
إن ما حصل في ليبيا واليمن ومصر والاعتداء على السفارات وقتل بعض الأمريكيين، سلوك غير حضاري، ولا يمت للإسلام بأي صلة.وإن أعمال العنف هذه، هي المبتغى لمن وقف وراء هذا الفيلم.
كان يجب على المسلمين أن يتعاملوا بحكمة وعقلانية في مثل هذه الأمور، وأن يدرسوا الهدف والغاية لمثل هذه الإساءات، وأن لا يقعوا بالفخ الذي يزرعه أي حاقد من هنا أو هناك، كان الأحرى أن يخرج المسلمون إلى أمام السفارات الأمريكية معتصمين بحبل الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعبروا عن رفضهم لمن أساء لنبيهم صلى الله عليه وسلم ودينهم بشكل سلمي وحضاري، دون اللجوء إلى الشغب وأعمال العنف.
ومع ذلك فإن الغرب يتحمل مسؤولية معنوية جراء تكرار الإساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يتعامل مع الدين الإسلامي بمكيالين، إذ كيف يسن الغرب قوانين رادعة وزاجرة لكل من يعادي السامية حماية لإسرائيل، ولا يسن قانوناً واحداً يجّرم كل من يعتدي على الأديان.
يجب على الغرب أن يعيد النظر في مفهوم الحرية بشكل لا تعود معه الحرية مادة للتصادم بينه وبين والإسلام، وأن يهتم بمضمونها وقيمتها الحقيقية. مع تسليمنا بأن من قام بهذا العمل لا يعّبر عن مواقف الحكومات الغربية، لكنا نرى أنه من المفيد أن تتبنى الأمم المتحدة ما صدر من قرار في مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية ينص على خريطة طريق شاملة لجهود وطنية ودولية منسقة لكفالة عدم إساءة استخدام الحقوق والحريات لتقويض حقوقٍ وحريات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، رسم الخطوط الفاصلة بين الخطاب الحر والخطاب المفعم بالكراهية.