توعد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بخطوط حمراء قبل وقوع هجوم كيماوي على غوطة دمشق عام 2013 أوقع أكثر من ألف قتيل من النساء والأطفال والشيوخ، دون أن ينفذ وعيده. جاءت إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعد هجوم مماثل أوقع أقل من مئة قتيل فقط، كي تنفذ ما توعد به أوباما.
هذا التناقض هو انعكاس للهوة في نظرة كل من الإدارتين الأميركيتين السابقة والحالية لدورهما في سوريا. ترامب يريد تصحيح مفاهيم محددة عند روسيا وإيران تحديدا بأنهما لا تملكان سوريا حصرا. أوباما لم يجد مشكلة في ذلك.
الضربات الصاروخية التي استهدفت مطار الشعيرات السوري وضعت حدا لمرحلة من عدم اليقين في الموقف الأميركي تجاه سوريا، وأَذنت ببداية مرحلة جديدة من تقاسم النفوذ مع الروس.
صواريخ كروز التي هطلت على المطار وسحقته بالكامل هي شد أذن من الأميركيين لنظام بشار الأسد. لا بسبب الهجمات الكيماوية التي وقعت الثلاثاء في خان شيخون فقط، بل من أجل إعلان موقف. بقدر ما أن هذا الموقف موجه للروس والإيرانيين خصوصا، فهو أيضا رسالة مزدوجة موجهة لحلفاء الولايات المتحدة.
منذ تولي ترامب الحكم في يناير الماضي، ظلت أيادي الأوروبيين على قلوبهم. كان الصمت الأميركي بالنسبة إليهم إشارة إلى تحول جذري في المقاربة الأميركية بين إدارتين ورئيسين، أحدهما يملك تطلعات يسارية غير واقعية للعالم، والآخر شعبوي ولا يمكن توقع ما سيقوم به.
اعتقاد الأوروبيين أن هذه المقاربة الأميركية الجديدة ستظل ثابتة إلى ما لا نهاية كان ساذجا. الصمت الأميركي لم يكن سوى انتظار لثغرة مناسبة تستطيع الولايات المتحدة أن تتسلل منها مرة أخرى إلى سوريا.
لا يهتم دونالد ترامب في سوريا سوى بمصلحة إسرائيل وتقليص نفوذ إيران، إلى جانب تنظيمي داعش والنصرة وأي جهاديين آخرين. لا نظام الأسد ولا المعارضة ولا القضية التي اندلعت من أجلها الحرب تعني ترامب في شيء.
لكن مساعديه في البيت الأبيض والبنتاغون لهم وجهة نظر تقوم على أن سقوط الأسد ليس في مصلحة الولايات المتحدة، على الأقل في المدى المنظور. لهذا السبب كانت الضربات عقابية، وليس أكثر من ذلك.
في سوريا هزيمة تنظيم داعش عسكريا وهزيمة إيران سياسيا هما أولوية أولى وثانية لواشنطن الآن. الفرق بين إدارة ترامب وإدارة أوباما أن الإدارتين تؤمنان بضرورة تأجيل إسقاط نظام الأسد، لكن الإستراتيجية المتبعة إلى حين حصول ذلك تختلف بينهما تماما.
أوباما كان يؤمن بترك الثمار تنضج على فروع الأشجار، إلى حين سقوطها بين يديه من تلقاء نفسها. هذا يعني ترك القدر السوري يغلي إلى النهاية، بغض النظر عن النتائج. ترامب يفكر بطريقة أكثر براغماتية.
الكثير من المسؤولين الأميركيين اليوم لا يمانعون من توظيف الأسد في الحرب على الجهاديين، دون الحاجة إلى تنسيق مباشر معه. الخطوة التالية هي تخييره بين رحيل إيران وحزب الله والميليشيات الشيعية الداعمة لهما، أو رحيله هو شخصيا.
النظام السوري سيخرج من الضربات الأميركية على القاعدة الجوية السورية من دون خسائر. الأسد يعلم أن ترامب احتاج هذه الضربات أكثر من المعارضة أو الدول الداعمة لها. هو يعلم أيضا أن العقاب كان منسقا مع الروس.
أسهم ترامب داخل الولايات المتحدة صباح الجمعة صارت في عنان السماء. غياب سياسة أميركية فاعلة في سوريا كان مسألة تشعر الجمهوريين والديمقراطيين معا بالعجز. المفارقة اليوم هي أن الديمقراطيين يبدون أكثر تشددا تجاه الأسد من الجمهوريين. في ظهورها الأول منذ انزوائها عن الأنظار، قالت هيلاري كلينتون الجمعة “أعتقد حقا أننا في حاجة إلى تدمير سلاح الجو السوري لمنع احتمال قصف الأبرياء ورمي قنابل السارين عليهم مرة أخرى”.
تصريحات كلينتون هي غطاء سياسي لتصرفات ترامب. الضربات الأميركية الجمعة هي أول نقطة يمكن للجانبين التوافق حولها، وهي بداية لعلاج الانقسام الذي خلفته الانتخابات الرئاسية.
السلوك المتهور لترامب مطلوب اليوم. العالم الذي كان يشكو من “بلطجة” الولايات المتحدة واندفاعها من قبل، صار يفتقد هذه الشخصية الأميركية كثيرا. تجربة حكم أوباما كانت مؤلمة لكل الحلفاء، في أوروبا والشرق الأوسط، وصولا إلى جنب شرق آسيا والمحيط الهادئ.
الضربات الصاروخية على مطار الشعيرات هي رسالة أميركية بعلم الوصول إلى كل الدول المارقة أيضا، من إيران وكوريا الشمالية، وحتى كوبا وفنزويلا. ضربة ترامب على الطاولة صارت مسموعة في كل أرجاء العالم.
من خسر في سوريا حقا إثر هذه الضربات هي تركيا. تسرع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتشنج وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو في تأييدهما للضربات سيكون لهما ثمن فادح. منذ اليوم على الأتراك أن ينسوا تحالفهم الهش أصلا مع الروس.
بوتين على علم طوال الوقت بأن أحدا لا يمكنه الوثوق بأردوغان. أردوغان ابن السياسة البراغماتية الفجة، لكن أيديولوجيته الإسلامية الممسوحة بنزعة قومية طغت على هذه البراغماتية وجعلته يبدو كمهرج أمام خصومه وحلفائه.
تسرع أردوغان بتأييد إنشاء مناطق آمنة بمجرد صدور كلام مبدئي من إدارة ترامب عن اعتمادها، أحدث شرخا في التفاهمات التي كانت تجمعه بموسكو. التهليل للضربات الأميركية على مطار الشعيرات سينهي قدرة تركيا على الفعل في سوريا حتى نهاية الحرب. أردوغان يشبه الفرس الجريح الذي ذهب تحت الأقدام بمجرد احتدام المعركة.
زمام الأمور اليوم باتت في أيدي الولايات المتحدة وروسيا حصرا، ولم يعد مسموحا لأي قوة إقليمية مهما كانت بتوجيه دفة الأحداث. هذه الفوضى انتهت.
روسيا أيضا خاسرة. إعلان موسكو تعليق اتفاقها مع واشنطن لتفادي وقوع حوادث جوية فوق سوريا هو تهور غير محسوب العواقب. أي احتكاك في الجو بين الجانبين قد يضعنا على شفا حرب عالمية ثالثة.
الروس يريدون إظهار أن بوتين من الممكن أن يكون أكثر اندفاعا من ترامب، وأن استعراض القوة الأميركية ليس بالخطوة الكافية لتخويف بوتين أو جعله يأخذ خطوات إلى الوراء.
لكن الجانبين لا يريدان أكثر من ذلك، لأنهما غير مستعدين لتحمل العواقب. هذا هو السبب وراء إصرارهما على إتمام زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى موسكو خلال أيام.
خطوة ترامب الواسعة تجاه سوريا هي إعلان لكل دول المنطقة عن أن روسيا لم تعد هي القوة الكبرى الوحيدة في الشرق الأوسط. الضربات على مطار الشعيرات هي نهاية لمرحلة الهيمنة الروسية التي بدأت بتدخل روسيا العسكري في سوريا في سبتمبر 2015.
الحضور العسكري الأميركي في المنطقة في تصاعد. زيادة حجم القوات في الكويت، وتعزيز القوة التي تقف خلف الخطوط الأمامية في معركة الموصل، كانا احتكاكا على الحافة مع النفوذ الروسي. مع ذلك ظلت هذه الخطط العسكرية خارج نطاق التأثير الروسي.
لكن خلال شهر واحد ظهرت قوات أميركية على الأرض في منبج، وأمسكت قوات خاصة أميركية بزمام معركة الطبقة حول سد الفرات إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية. وقتها تحول الحضور الأميركي فجأة إلى مصدر قلق وإزعاج في موسكو، بعدما بات يشكل تهديدا جيوسياسيا يخصم من نفوذ روسيا.
كما كان الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق عام 2013 بداية لتسليم مفاتيح سوريا إلى روسيا، سيكون الهجوم الكيماوي على خان شيخون وضرب مطار الشعيرات بداية لمعادلة صفرية لا تستطيع موسكو فيها التحرك دون الاستماع إلى واشنطن.
أحمد أبو دوح