تمكنت منذ بداية عملها الديبلوماسي في الحلبة الأبرز للسياسات الدولية المعقدة، من خطف الأضواء قبل أن تتمم إدارة الرئيس دونالد ترامب الأيام المئة الأولى من عهده. حجبت حتى الآن الدور الذي يفترض تقليدياً أن يكون مرئياً أكثر لوزير الخارجية ريكس تيليرسون باعتباره كبير الديبلوماسيين الأميركيين.
ثمة خلفية مثيرة لما قالته المندوبة الأميركية أخيراً خلال مشاركتها في نشاطات اللجنة الأميركية - الإسرائيلية للعلاقات العامة "أيباك" خلال آذار الماضي في واشنطن، عن الكعب العالي الذي تنتعله "ليس تعبيراً عن الموضة، بل لأني إذا رأيت الخطأ، سأرفسهم كل مرة". ليست هذه المرة الأولى. هذا الكلام ليس عابراً.
هايلي التي تبلغ ٤٥ عاماً وتبوأت أحد أرفع المناصب الديبلوماسية في الولايات المتحدة، تتحدث بلغة غير معهودة بين الديبلوماسيين. أسلوبها غير ديبلوماسي على الإطلاق. منحها ترامب منصباً وزارياً هو الأول بين الجمهوريين منذ تولت جين كيركبارتريك مهمة المندوبة الأميركية الدائمة في الولاية الأولى للرئيس رونالد ريغان. يتردد على نطاق واسع أن الأمم المتحدة محطة رئيسية للمرأة الأولى الحاكمة سابقاً لولاية ساوث كارولينا من أجل التعرف من كثب على السياسة الخارجية بكل أوجهها، ومن ثم الارتقاء الى مناصب سياسية أرفع، في وزارة الخارجية والكونغرس والبيت الأبيض. بل إن البعض لا يستبعد أن تكون المرشحة الرئاسية المفضلة لدى الحزب الجمهوري في السنوات المقبلة، مع أنها تكرر أنها تدرك واقع أنها من أبوين هنديين من طائفة السيخ. من يعرف؟ هذه الولايات المتحدة أنجبت أوباما رئيساً من أب كيني. رداً على بعض التقارير، كشفت أن الرئيس ترامب استدعاها في 17 تشرين الثاني 2016 لمناقشة شؤون وزارة الخارجية. لكن خلافاً للتقارير، لم يعرض المنصب عليها، ربما لأنها لم تتمرس سابقاً في أي عمل ديبلوماسي. اختارها للأمم المتحدة.
صعد نجمها منذ بداية عملها في الحقل العام في ولايتها ساوث كارولينا. على رغم أصولها الهندية، تشرّبت نيكي هايلي ثقافة الجنوب الأميركي. تلك التي تقوم في بعضها على مظاهر القوة. كانت لا تزال في حاكمية ساوث كارولينا عندما قالت مع واحد من أبرز البرامج الكوميدية التلفزيونية الأميركية عام 2012 إن السياسة في دمها "رياضة دامية"، كالملاكمة والمصارعة وصيد الحيوانات والطيور. أضافت في ذلك البرنامج بالذات: "أنتعل كعباً عالياً، وهذا ليس تعبيراً عن الموضة، إنه سلاح (...) إنه للرفس". زادت في مؤتمر "أيباك" الأخير أنه على الجميع أن يدركوا أن "ثمة ضابط شرطة جديداً" في الأمم المتحدة.
اختارها سيد البيت الأبيض للمنصب الحساس في الأمم المتحدة على رغم أنها كانت تعارض ترامب المرشح في الانتخابات التمهيدية لمصلحة المرشح الجمهوري الآخر السناتور ماركو روبيو. لكنها استطاعت أن تضع نفسها تحت نظر ترامب الرئيس.
ما إن صادق مجلس الشيوخ على تعيينها، انتقلت هايلي الى نيويورك لتقول بلهجة تحذيرية "للذين لا يساندوننا، نحن نسجل أسماءهم". كان ذلك في بهو المقر الرئيسي للمنظمة الدولية قبيل تقديم أوراق اعتمادها للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس. يشبه هذا الكلام تحذيرات ذاعت للرئيس سابقاً جورج بوش الابن: "من ليس معنا، فهو ضدنا". كررت لاحقاً عبارة "تسجيل الأسماء" في تغريدة بتويتر.
في ظل الغياب شبه التام والمقصود لريكس تيليرسون عن الصورة الإعلامية، ملأت نيكي هايلي الحيز المهم باعتبارها ممثلة الدولة العظمى الوحيدة في العالم. سجلت مواقف حاسمة من بعض أبرز القضايا الدولية الساخنة، ولا سيما حيال روسيا، التي يشاع أن لمقربين من ترامب علاقات ملتبسة معها. في المناسبة الأولى لها أمام مجلس الأمن، اتخذت موقفاً صلباً من "الاحتلال" الروسي لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا، مؤكدة أن العقوبات الأميركية لن ترفع ما لم تتراجع موسكو عن "عدوانها". استعان الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر بهذه التصريحات غداة الضجة التي أثارتها إقالة المستشار السابق للأمن القومي مايكل فلين.
لا أحد يعرف الآن كيف ستتبلور العلاقة مستقبلاً بين تيليرسون وهايلي إذا ظلت هي في دائرة الضوء وهو في العتمة. كانت كيركباتريك على صدام واضح مع وزير خارجيتها آنذاك ألكسندر هيغ.
يتحسب الديبلوماسيون التقليديون والسياسيون المتمرسون أي صدام علني مع المستجدين على هذه الساحة. لعل هذه هي حال الأمين العام للأمم المتحدة مع المندوبة الأميركية التي تمثل رئيساً أميركياً عبر أكثر مرة وبصور مختلفة عن مواقف سلبية من المنظمة الدولية. أمام ضغوط هايلي، اضطر غوتيريس الى التراجع عن قراره تعيين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة الى ليبيا، والى سحب تقرير من وثائق لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، الأسكوا لأنه يندد بإسرائيل باعتبارها دولة فصل عنصري، "أبارتايد". استقالت المديرة التنفيذية ريما خلف قبل أسبوعين من نهاية ولايتها، احتجاجاً على ذلك. لم تترك نيكي هايلي مناسبة إلا ودافعت فيها عن اسرائيل بصورة غير مسبوقة من الإدارات الأميركية المتعاقبة. وصفت مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأنه "فاسد للغاية" لأنه يندد بإسرائيل بصورة متكررة. كأن "اسرائيل أولاً" بالنسبة اليها.
في المقابل، أخضعت هايلي لتجربة غير معهودة لديها عندما استخدمت روسيا والصين حق النقض، الفيتو، لتعطيل قرار في مجلس الأمن أعدته الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا للمطالبة بمحاسبة النظام السوري على استمرار استخدامه الأسلحة الكيميائية. لديها تصريحات متضاربة عن رؤية إدارتها للرئيس بشار الأسد ودوره في مستقبل سوريا، في ظل العزيمة الدولية الثابتة لإلحاق الهزيمة بـ"الدولة الإسلامية – داعش" والجماعات الإرهابية الأخرى.
تنظر الى ايران باعتبارها الراعية الأولى للإرهاب عبر العالم. تعتقد أنه يجب العمل لسحب نفوذها من سوريا ولبنان والشرق الأوسط.
كذلك هي الحال بالنسبة الى كوريا الشمالية التي أجرت تجارب صاروخية تحدياً على ما يبدو لإنذارات من الولايات المتحدة التي تريد من الصين تطبيقاً فعلياً للعقوبات الدولية المفروضة على بيونغ يانغ في قرارات لمجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
تسعى المندوبة الأميركية الى مراجعات، كل على حدة، لعمليات حفظ السلام الـ16 عبر العالم بهدف خفض مساهمة الولايات المتحدة من 28 في المئة الى 25 في المئة من طريق "ترشيق" قوات حفظ السلام وخفض عدد أفرادها. لكن التجربة الأولى لكبرى عمليات السلام وأقدمها في جمهورية الكونغو الديموقراطية لم تؤد الى خفض العدد 500 عنصر من أصل 16700 منتشرين في هذا البلد الأفريقي حالياً. يحصل هذا الضغط الأميركي في ظل مجاعة تطرق أبواب 20 مليون انسان في أربع دول هي اليمن والصومال وجنوب السودان وشمال شرق نيجيريا.
قال المندوب الفرنسي الدائم لدى الأمم المتحدة فرانسوا ديلاتر إن الأمين العام "عثر على التوازن المطلوب" مع السفيرة الأميركية، مضيفاً أن أنطونيو غوتيريس "أقام علاقات ممتازة" مع نيكي هايلي. وإذ أكد أن "إصلاح الأمم المتحدة أولوية رئيسية، وسيظل كذلك، مما سيساعد في الظروف الراهنة".
يسجل لهايلي أنها صريحة بقولها إنها تحتاج إلى وقت كي تتعلم كيف تعمل الأمم المتحدة. غير أنها تضطر أيضاً الى تكريس كثير من الوقت للتعامل مع مخاوف الديبلوماسيين من إدارة ترامب العصيّة على كل التوقعات.