قبل أيام نَقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية والتي لا تزال من وسائل الإعلام القليلة التي تحتفظ بعلاقة ممتازة مع البيت الأبيض، أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب تعيد تشكيلَ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
وفيما كرّرت الصحيفة الموقفَ الأميركي بأنّ الأولوية هي لدحرِ «داعش» وليس لإسقاط الرئيس السوري، نَقلت أيضاً عن فيل غوردن الذي عملَ سابقاً مساعداً في البيت الأبيض لإدارة باراك أوباما ويعمل حاليّاً في مجلس العلاقات الخارجية، أنّ ترامب أوضَح منذ فترة طويلة اقتناعَه بأنّ نهج واشنطن في محاولة تغيير الأنظمة، إنّما هو فكرة سيئة جداً.
وأضافت الصحيفة نقلاً عن غوردن أنّ ترامب اتّفقَ بذلك مع وجهة نظر روسيا أنّ السبيل الوحيد لهزيمة الإرهابيين في سوريا يتمثّل في استخدام القوّة ضدّهم، ولهذا الخيار شروطه.
وفي أبرز دليل على ذلك، ذكرَت أوساط ديبلوماسية معروفة بسعةِ اطّلاعها أنّ إسرائيل التي لا تزال تحت صدمة إطلاق صواريخ أرض - جو السورية، اقترحَت على واشنطن أن يكون الردّ على مجزرة خان شيخون بشنِّ غارات جوّية وتدمير الطائرات الحربية السورية على أرض المطارات العسكرية، وإنّ الظرف مؤاتٍ لذلك. لكنّ الجواب الأميركي كان سلبياً متذرّعاً بالموقف الروسي، وهو ما قد يؤدّي إلى مواجهة جوّية مع الطائرات الروسية.
وعلى ما يبدوـ فإنّ إدارة ترامب قد أنجَزت إلى حدّ بعيد رؤيتَها للخريطة السياسية في الشرق الأوسط، ووفق هذه النظرة أعلنَت واشنطن رسمياً وعلى لسان وزير خارجيتها وبلغةٍ ديبلوماسية أنّ الأسد باقٍ في السلطة، كما أنّ صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر باشرَ مهمّاته في الشرق الأوسط من البوّابة العراقية.
وواشنطن التي ارتأت تأجيلَ فرضِ أيّ عقوبات جديدة على طهران لكي لا تتأثّر الحملة الانتخابية للرئيس الإيراني حسن روحاني سلباً، كانت أبلغَت إلى زوّارها مِن الزعماء العرب أنّ مشروعها في الشرق الأوسط يرتكز على ثلاث قواعد:
1 - القضاء على دولة «داعش».
2 - تحجيم النفوذ الإيراني خارج الحدود الإيرانية.
3 - إنجار تسوية إسرائيلية - فلسطينية.
وبالنسبة للهدف الأوّل، تبدو الأمور متقدّمة، فيما بدأت جهود تركيز قواعد تحقيق البند الثالث. أمّا البند الثاني الذي تضغط في اتّجاهه الدولُ المناهضة لإيران ومِن بينها إسرائيل، فإنّ الضبابية لا تزال هي السائدة. فعلى مستوى تركيز قواعد خطة التسوية الإسرائيلية - الفلسطينية، فإنّ زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لواشنطن تبدو محطةً حاسمة.
ونَقلت أوساط ديبلوماسية أميركية أنّ الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي طلبَ من نظيره الأميركي الضغط على عباس أكثر، فيما طلبَ ترامب في المقابل مساعدةَ مصر في تليين مواقف القوى الرافضة للتسوية.
وتَردَّد أنّ ترامب يدرس فكرة إدراج فرع مصر من «الإخوان المسلمين» على لائحة الإرهاب عوض إدراج «الإخوان المسلمين» بنحو عام وشامل ثمناً لتداعيات ذلك على تركيا ودول أخرى حليفة لـ«الإخوان».
وفيما سُجّلَ تجنّب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السفرَ إلى واشنطن والمشاركة في المؤتمر السنوي لمنظمة «ايباك» اليهودية لتحاشي ضغوط أميركية عليه حول التسوية السلمية، لفتَ ما يسرّب عن أنّ الميثاق الجديد لحركة «حماس» والذي سيعلن قريباً سيكون واقعياً وخالياً من أيّ إشارة تربطها بـ»الإخوان المسلمين».
كذلك سيفرّق الميثاق بين اليهود والمشروع الصهيوني، والاعتراف بإقامة دولة فلسطينية مستقلة تماماً وعاصمتُها القدس وفق حدود 4 حزيران 1967 ولو من دون الاعتراف بإسرائيل.
لكن الحكومة الإسرائيلية التي ترفض أيّ تسوية مع الفلسطينيين تضع الأولوية لتجميد نفوذ إيران من خلال ضرب «حزب الله» وإبعاده عن الجولان. وأخيراً تبادلت إدارة ترامب وإسرائيل و»حزب الله» رسائلَ عسكرية مشَفّرة.
ففي احتفالٍ شارَك فيه نتنياهو وخبراء أمنيّون أميركيون، أُعلِن عن تطوير «مقلاع داود» وهو مشروع مشترك إسرائيلي - أميركي بديل من صواريخ «باتريوت» وقادر على إسقاط صواريخ متوسطة المدى، وهو ما يشكّل نقطة ضعفِ إسرائيل في مواجهاتها مع «حزب الله»، وهو سيشارك «القبة الحديد» مهمّاتها.
كذلك تمَّ تفعيل المظلّة المخصّصة لحماية منصّات استخراج الغاز في المياه الإسرائيلية. في المقابل، بثّت قناة «المنار» التابعة لـ»حزب الله» صوَراً لتحصينات إسرائيلية قرب الحدود خشية حصول هجومٍ برّي للحزب، وربّما أراد «حزب الله» الإشارة إلى قدرته الكاملة والجاهزة.
أمّا صحيفة «وول ستريت جورنال» فأوردت تقريراً وصَفت فيه «حزب الله» بالفائز في الحرب الدائرة في سوريا، فهو حافَظ على خطّ إمداده البرّي بالسلاح وأصبح أقوى وأكثر اعتماداً على النفس، يكتسب خبرات ميدانية حيث يقاتل جنباً الى جنب مع الجيش الروسي، وهو التحالف الأوّل له مع جيش عالمي. ولفتَت الصحيفة أيضاً إلى أنّ «حزب الله» هو من أعدَّ خطة استعادة حلب ونفّذها مع الجيش السوري.
الفريق المناهض لإيران يقرأ في الرسائل الأميركية تحضيراً لتحجيم «حزب الله» عبر ضربِه بعدما أصبَح قوّةً كبيرة، وأنّ الإعلان عن بقاء الأسد إنّما يَهدف إلى تحييد النظام السوري من أيّ ضربة جوّية محدودة قد يتلقّاها «حزب الله»، طالما إنّ وضع الجيشِ الإسرائيلي، وخصوصاً سلاح المشاة لا يَسمح بالانخراط في حرب واسعة.
لكنّ أوساطاً ديبلوماسية تُعتبر خبيرةً في شؤون الشرق الأوسط تقرأ هذه الرسائل على نحوٍ مختلف، فهي ترى فيها حضّاً لإسرائيل على الدخول في التسويات المطروحة ملاذاً آمناً وحيداً لضمان المستقبل.
أضِف إلى ذلك أنّ أولوية المعركة مع «داعش» تستوجب إبقاءَ لبنان ضمن دائرة الاستقرار العسكري والأمني والاقتصادي، وأيضاً السياسي، ما يعني أنّ الاهتزازات الدراماتيكية ممنوعة، حتى ولو كانت على المستوى الانتخابي.
عسى أن لا يَقرأ البعض الخطوط السياسية المتشابكة والمعقّدة خطأً، وأن يراهن على أوهام، وعلينا أن نتذكّر دائماً أنّ ترامب هو رَجل أعمال بلباس مرقّط يسعى إلى التسويات ولو بنبرةٍ حربية.