لبنان على موعد مهم مع «مؤتمر دعم مستقبل سورية والمنطقة» الذي يعقد في بروكسيل بمشاركة أكثر من 70 دولة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات المجتمع المدني، وهو بات، بعد مؤتمرات مماثلة في لندن والكويت، بمثابة موعد سنوي لإجراء مراجعة للأزمة السورية بأبعادها الإنسانية وانعكاساتها على دول الجوار، ولتقرير مساهمات تلك الدول والهيئات في دعم تمويل خطط الاستجابة للأزمة. ما ينتظره العالم من لبنان في هذا المؤتمر ليس أن يقدم عرضاً لحجم أزمة اللجوء السوري وأعبائها أو جدولاً بالمساهمات الدولية المطلوبة للتخفيف من وطأتها فحسب، وهذا أضعف الإيمان، بل أيضاً وخصوصاً: كيف يتعامل لبنان مع هذه الأزمة؟ ما هي السياسات العامة التي يعتمدها حيال الجوانب المتعددة لتلك الأزمة؟ ما هي الأهداف المتوخاة منها؟ ما هي التدابير الإجرائية التي تترجم تلك السياسات؟ ما تحقق منها حتى الآن؟ ما هو مخطّط؟ وما يبقى رهن التنفيذ؟ في هذا السياق، يستحسن أن نبدأ من السؤال البديهي حول دقة الإحاطة بحجم أزمة النزوح وأبعادها وتحولاتها، وهي ألف باء أي سياسة عامة تستحق تلك التسمية. هل بات لبنان مثلاً يمتلك قاعدة بيانات خاصة، شاملة ومتحركة، للمواطنين السوريين الموجودين فوق أراضيه؟ أم أننا ما زلنا في طور الحديث عن رقم «المليون ونصف المليون سوري» التقديري المُعتمد منذ سنتين حين «منعت» المفوضية العليا للاجئين من تسجيل أي لاجئ إضافي فتوقف الإحصاء عند مليون و11 ألف لاجئ سوري مسجّل رسمياً، من دون أن يعني ذلك بالطبع توقف تدفّق اللاجئين؟ كذلك، هل يمكن القول إن السلطات اللبنانية باتت تمتلك، كما سائر الدول، تصنيفاً منهجياً للسوريين يوزّعهم على ثلاث فئات يترتب على كل منها أوضاع قانونية مختلفة: 1- لاجئ (أو نازح)؛ 2- مقيم؛ و3- زائر. وبالتالي كم هو اليوم عدد النازحين، وعدد المقيمين (الطلاب منهم والعمال وغيرهم)، وعدد الزوار؟ وكيف تتوزع هذه الأرقام، جغرافياً، وعمرياً، ومهنياً، واقتصادياً؟ كيف تتحرك هذه الأرقام ووفق أي ديناميات واتجاهات؟ في الأردن أو تركيا على سبيل المثال، يمكن الحصول على هذه البيانات وتطوراتها «بكبسة زر»، ومنذ سنوات، أي منذ اندلاع الأزمة. هذا على صعيد المعرفة الميدانية، التي هي أساس أي تخطيط سليم. أما على الصعيد الإجرائي، فيجدر التساؤل: أولاً- ما هي سياسة الإيواء التي تعتمدها (أو ستعتمدها) الحكومة اللـــبنانية حيال النازحين السوريين، خـــصوصاً أولئك الذين يقطنون في تجمّــــعات عشوائية ويقــدّر عددهم ما بين 400 ألف ونصف مليون نازح؟ هذا ليس سؤالاً «إنسانياً» فحـــسب، بل سؤال سياسي وإداري وتقـــنـــي لما لهذه المساكن والمخيمات العشــوائية من ارتدادات بيئية وأمنية واجتماعية تتجاوز حدود المخيم. ثانياً- ما هي سياسة التشغيل المعتمدة حيال المواطنين السوريين اليوم في لبنان؟ من يضع هذه السياسة؟ وما هي قواعدها ومرتكزاتها وأهدافها؟ من يحق له من السوريين العمل في لبنان ووفق أي شروط وفي أي قطاعات أو مجالات؟ لا نعلم بالتحديد كم من السوريين يعمل فعلياً في لبنان اليوم، لكن يعتقد أن طالبي العمل ممن يحملون الجنسية السورية يشكلون نحو 25 في المئة من إجمالي القوى العاملة في لبنان. ألا يستوجب هذا الواقع تدابير أوسع وأكثر تعقيداً من إجراءات التضييق الاستنسابية التي تقوم بها وزارة العمل على خلفيات أيديولوجية أو انتخابية أو شعبوية؟ ألا يستوجب هذا الواقع سياسة تشغيل مركّبة ومنظّمة تتيح الاستفادة من الموارد البشرية السورية في القطاعات التي لا تشكّل فيها منافسة غير مشروعة لليد العاملة اللبنانية؟ برأيي أن تنظيم سوق العمل وفق هذه القاعدة المزدوجة والتخطيط لأنشطة اقتصادية ومشاريع مولدة للدخل قادرة على الاستفادة المنهجية من هذا التكامل، وهذا بالمناسبة ما نجحت تركيا في اعتماده، هو أحد أهم المجالات لتحويل تحديات أزمة اللجوء ومصاعبها إلى فرصة للبنان. ثالثاً- أي سياسة تربوية حيال النازحين السوريين؟ صحيح أن لبنان نجح في استيعاب 250 ألف تلميذ سوري في المدارس الرسمية، لكن هناك عدداً مماثلاً في سن الدراسة خارج المدرسة. كذلك يتعلق الأمر بمدى المواءمة بين المناهج الدراسية اللبنانية وحاجات الطلاب السوريين المسجلين في لبنان، الحالية منها والمستقبلية، خصوصاً ما يتصل بالتعليم المهني وعلاقة هذا الموضوع بسوق العمل، سواء فـــي لبنان أو بعد العودة إلى سورية. كما أن إحدى التحديات الرئيسية هـــو الضغط الهائل الذي ترزح تحته البنى التحتية المدرسية (المباني والملاعب والتجهيزات) من جراء نظام الدوامين، بعد إدخال نظام بعد الظهر لاستيعاب التلاميذ السوريين. رابعاً- المدارس ليست سوى «رأس جبل الجليد» بالنسبة إلى ما تـــعانيه المجتمعات المضيفة من جــــراء النزوح السوري الذي يشكل عامــــل ضغط قوي على مجمل البنيـــة التحتية لتلك المجتمعات، من طرقات وكهرباء وماء ونفايات صلبة وصرف صحي، ناهيك عن المنافسة في سوق العمل، إذ إن العـــدد الأكبر من السوريين يقيم في المناطق الريفية الأكثر فقراً أو في الضواحي الأكثـر اكتظــاظاً. هذا الواقـــع يحتّم سياسة تنمية محلية خاــصة بتلك المناطق والضواحي تتضمّن دعماً استثنائياً لمستوى الخدمات والبنى التحتية واستثمارات موجّهة لخلق فرص عمل لهؤلاء السكان بالتحديد تعـــوض ما يمكن أن يكون قد انتــقـــل بفـــعل النزوح إلـــى اليــد العاملة السورية. في هذا السياق، ثمة علاقة عضوية واضحة بين تعزيز الأمن ومكافحة البطالة، التي تحول دون انخراط الشباب المهمّشين في النشاطات غير القانونية أو المتطرفة، وتحول دون مشاعر الاعتراض العفوية والشعور بالحرمان لدى المجتمعات المضيفة. تقول الحكومة إنها تريد إحداث تلك النقلة من الإغاثة إلى التنمية عبر دعوة المانحين والقطاع الخاص إلى الاستثمار في سلة من مشاريع البنى التحتية تحظى بالأولوية. إن الحكم على هذا الرهان يتوقف على محتوى هذه السلة وطابعها التنموي وقدرتها على خلق فرص عمل لائقة وملائمة للمجتمعات المضيفة وللاجئين، مع الكثير من الحذر والتحفّظ المسبق، خصوصاً في ما يتعلق بقطاعات النقل والمياه والطاقة والنفايات الصلبة. والأسئلة هنا كثيرة: هل يستمر لبنان في سياسة النقل الخاطئة المعتمدة حصراً على بناء مزيد من الطرقات لاستيراد مزيد من السيارات من دون إدخال حد أدنى الاعتماد على النقل العام والسكك الحديد؟ هل تندرج مشاريع السلة المقترحة للطاقة والمياه في سياق الخطط نفسها القائمة منذ 2011 والتي فاقمت أزمتَي الكهرباء والمياه عوضاً عن حلها؟ ما ينتظره اللبنانيون والمجتمع الدولي هو خطط ذات بعد تنموي واضح وأولويتها توفير الخدمة العامة من ضمن شراكة شفافة مع القطاع الخاص ومنافسة عادلة بين المستثمرين. تلك نماذج عما نود سماعه حول هذا الموضوع، كلبنانيين أولاً، قبل الدول المانحة، قبل مؤتمر بروكسيل وخلاله وبعده. عندما يباشر لبنان مثل هذه السياسات يصبح أسهل بكثير مطالبة المجتمع الدولي بمشاركتنا أعباء هذه الأزمة والوفاء بتعهداته حيالها، والكل يعلم مدى تقصير المجتمع الدولي والدول الكبرى في هذا المجال. عندما نقوم بواجبنا، حيال أنفسنا أولاً، يسهل علينا تذكير المجتمع الدولي، لا بل تأنيبه في هذا المجال. ثمة نقطة أخيرة مهمة تتعلق بالسياسات. صحيح أن لبنان سينطق بصوت واحد خلال المؤتمر من خلال كلمة الرئيس سعد الحريري، لكن الوفود الدولية والمراقبين ووسائل الإعلام لن يفوتهم ملاحظة الأصوات «الرسمية» المرتفعة من خارج المؤتمر ولا العدد الكبير والاستثنائي للوزراء والمستشارين المشاركين في المؤتمر. ومن دلالات ذلك أن هذا المـــلف، خصوصاً في شقّه التمويلي، ما زال موضع «تجاذب» بين أكثر من طرف في الجمهورية اللبنانية، وذلك على رغم تعيين وزير دولة خـــاص لشؤون النازحين في الحكومة الحالية. من الطبيعي أن ينخرط العــــديد من الوزارات والإدارات في برنـــامج الاستجابة لأزمة اللاجئين، إنما وفق استراتيجية متكاملة للدولة اللبنانية واضحة المعالم والأهداف والسياسات وعلى قاعدة التكامل وتوزع الاختصاص، وليس على قاعـــدة المحاصصة والتجاذب التي نشهدها في الكثير من المجالات. هـــذا ما نرغب في رؤيته بأسرع وقت، كلبنانيين أولاً، وقبل الدول المانحة.

أنطوان حداد

(إيلاف)