لبنان مهدّد بالفوضى الشاملة، وبالفراغ القسري في جميع مؤسساته الدستورية. هذه هي خلاصة النقاشات التي باتت عقيمة، بشأن قانون الانتخابات. والاستمرار على هذا المنول يعني دخول البلاد في مرحلة لا تقل قتامة عن الفراغ الرئاسي. ولا يُبعد «الشر المستطير» سوى موقف تاريخي للرئيس ميشال عون، يدفع به قيادة التيار الوطني الحر، والجميع، إلى مكان يقدّم فيه كل منهم تنازلات تؤدي إلى تسوية. والتيار الوطني الحر مطالب قبل غيره بالإقدام. فهو، «أم الصبي». العهد عهده.

والحكومة حكومته، وهو الذي يمارس التجربة الحكومية للمرة الاولى بهذا الزخم. والأهم، فإن التيار هو الذي تراجع عن جميع تعهّداته وشعاراته السابقة، بما يخص قانون الانتخاب. تراجع عن اتفاقه مع القوى التي اجتمع معها في بكركي بعد العام 2012، إذ كان الاتفاق يقضي باعتماد النسبية الكاملة في 15 دائرة. وتراجع عن رفضه للنظام الأكثري في قانون «الستين». فإذا به يعرض مشروع قانون انتخابي يعتمد دوائر «اكثرية» تفوق بحجمها دوائر «الستين»، ونسبيةً مفرغة من مضمونها. يبدو مشروع الوزير جبران باسيل لقانون الانتخاب مفصّلاً بالتمام والكمال على قياس تحالفه مع القوات اللبنانية، ويضمن لهما، قبل خوض الانتخابات، الفوز بأكثر من 45 مقعداً نيابياً، من دون الحاجة إلى القيام بأي حملة او دعاية. وهو قانون لم يشهد لبنان مثيلاً به، بالسوء، إلا في عهد اللواء غازي كنعان. وبعد رفض التيار النسبية الكاملة في لبنان دائرة واحدة، ها هو رئيسه جبران باسيل يُهدر فرصة تاريخية بإمكان اعتماد النسبية الكاملة في دوائر متوسطة. كان باسيل يقول إن الرئيس سعد الحريري يُناور بإبلاغ محاوريه قبوله بالنسبية في لبنان دائرة واحدة. لكن الحريري ذهب أبعد مما توقع الجميع، بإعلانه أمس، على لسان وزير الاتصالات جمال الجراح، عدم رفضه للنسبية في دوائر متوسطة. وأبلغت مصادر رفيعة المستوى في التيار الوطني الحر «الأخبار» رفض النسبية في الدوائر المتوسطة، إذا لم تقترن بالتأهيل الطائفي للمرشحين.
يُضاف إلى ما تقدّم أداء مُستهجن يقوم به التيار تجاه حليفه الأوثق، حزب الله. بات باسيل يُحدّد مواعيد، «على الهواء مباشرة»، لسماع موقف الحزب من مشروعه الانتخابي. علما أن حزب الله كان قد أبلغ باسيل ملاحظاته: طلب تعديل دائرة الشمال التي تستهدف النائب سليمان فرنجية، وطالب باعتماد لبنان دائرة واحدة في الشق النسبي مع تحرير الصوت التفضيلي وعدم حصره بالقضاء. الا أن باسيل، وفقاً لمصادر رفيعة المستوى في التيار، وافق حصراً على ملاحظة الحزب المتعلقة بدوائر الشمال الأكثرية، ورفض الأخذ بالملاحظات الأخرى، مصرا على تقييد الصوت التفضيلي وابقاء صيغة الدوائر النسبية على ما هي عليه (المحافظات الخمس التاريخية). وبذلك، فإن المطلوب من باسيل هو إعلان موقف. لكن وزير الخارجية يصرّ على «حشر» حليفه حزب الله. ويوم امس، كررت قناة «أو تي في» الحديث عن أن الحزب سيُبلغ باسيل موقفه غداً الخمس.
وكان لافتا أمس تصريح النائب ابراهيم كنعان، من معراب، أن «لا تمديد من دون قانون انتخاب جديد، فحتى التمديد التقني نريد دراسته كحزبَين (التيار والقوات اللبنانية) حين نصل إليه». تلى ذلك قول عضو تكتل التغيير والاصلاح، النائب ألان عون، إن التيار بانتظار أجوبة على طرح باسيل وفي حال عدم الوصول الى توافق، «نحن ذاهبون الى المرحلة الاخرى وهي التصويت لحسم الخلافات». واوضح عون في حديث تلفزيوني، انه «لا جديد بالنسبة الى التيار الوطني الحر كي يتم عرضه، والرئيس ميشال عون يريد قانون انتخاب جديد.


وإذا تعذر التوافق، فعلى القوى السياسية حسم امرها من خلال التصويت في مجلس الوزراء ومجلس النواب».
رئيس المجلس النيابي نبيه برّي لم يستسغ مواقف التيار بالأمس معتبرا «رفض التمديد التقني بمثابة تمهيد لحدوث فراغ في المجلس النيابي وتالياً في المؤسسات الدستورية الأخرى». وقال برّي لـ«الأخبار»: «إذا صحّ ما يُنقل من مواقف، فإن اللعبة انكشفت، يريدون الفراغ». وينقل زوار بري عنه تذكيره بأن النظام في لبنان برلماني، وإذا وقع الفراغ في المجلس النيابي، تسقط شرعية المؤسسات الأخرى، كونها إما منتخبة من المجلس، أو نالت ثقته. وقالت مصادر بارزة في حركة أمل لـ«الأخبار» إن «هناك سعيا حثيثا للاتفاق على قانون الانتخاب ونحن حريصون على الوصول إلى قانون عادل ينتج تمثيلاً صحيحاً، لكن يبدو أن هناك قوى تريد أن تخيّرنا بين السيء والسيء، أي بين قانون انتخابي طائفي أو بين الفراغ، والبلاد أمام مفترق طرق خطير». وحرصت المصادر على التأكيد أن «قانون الانتخاب لن يأتي بالتهديد والوعيد، إنّما بالاتفاق لما فيه مصلحة البلد. أمّا إذا كانت الأمور بالتهديد، فلن نقبل حتى بالنسبية وفق دوائر متوسّطة، إنّما بالنسبية الكاملة على أساس لبنان دائرة واحدة». كذلك علمت «الأخبار» أن وزير المال علي حسن خليل أكّد بعد ظهر أمس في اجتماع مع كوادر من حركة أمل، أن «الحركة وحزب الله لا يخافان من الانتخابات، بل على العكس يضمنان الربح في المقاعد من الآن، لكن المسألة تتعقّد كلّما طال الانتظار من دون قانون انتخاب لتتعدّى مسألة الانتخابات إلى اللعب بمصير البلاد والدولة». وقال خليل أمام كوادر أمل: «عليكم أن تستعدّوا لكل الاحتمالات».
على مقلب حزب الله، الصورة واضحة أكثر من أي فريق سياسي آخر. ولا يفترض تاليا أن ينتظر منه أحد جوابا يوم الخميس. النائب محمد رعد (رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، وعضو مجلس شورى القرار في الحزب) أكّد في أكثر من خطاب في الأيام الماضية التمسّك بالنسبية. وكذلك فعلت الكتلة الأسبوع الماضي، ونائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم (وهو الذي يتولى إدارة الملف الانتخابي في الحزب). ويوم امس، أكد عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب نوار الساحلي أن «موقف حزب الله لن يتغير، وهو اعتماد النسبية الكاملة لأنها الطريقة الوحيدة التي توصل صوت كل الشرائح والفئات اللبنانية الى الندوة البرلمانية».
أضيف إلى ذلك خرق غير متوقّع من قبل كثيرين، أتى من جانب تيار المستقبل الذي أوضح بما لا يحتمل التأويل أمس رفضه لمشروع باسيل عبر تشديد كتلة المستقبل على «رفض اقتراحات القوانين التي تكرس المذهبية والطائفية» وتمسكها «بتأمين صحة التمثيل لكل اللبنانيين، المحافظة على العيش المشترك، اعتماد وحدة المعايير». وأتى تصريح وزير الاتصالات جمال الجراح ليؤكد ما كان يُقال في الجلسات المغلقة، إذ أعلن الجراح أن «رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري لم يعُد يمانع النسبية الكاملة على أساس دوائر وسطى»، مشيراً إلى «أننا كنا ايجابيين في كل الطروحات، خاصة في طرح رئيس التيار الوطني الحر، وسنكون ايجابيين مع كل قانون مقترح». ليعقبه تصريح آخر لرئيس مجلس الوزراء سعد الحريري يشير فيه أنه «سيكون لنا قانون انتخابات جديد خلال أيام».
أزمة أمل ــ «المستقبل»
من جهة ثانية، علمت «الأخبار» أن الأزمة بين حركة أمل وتيار المستقبل على خلفية التعيينات في قوى الأمن الداخلي تزداد تعقيداً، بعد أن اتخذ وزير المال علي خليل قراراً بوقف دفع المصاريف السرية لقوى الأمن الداخلي، فضلاً عن سلسلة إجراءات إدارية في وزارة المالية تطال عدداً من الموظّفين المحسوبين على تيار المستقبل. فقد أصدر خليل قرارين، ينص أحدهما على «إلحاق مراقب الضرائب الرئيسي الملحق بدائرة كبار المكلفين في مديرية الواردات السيد طارق برازي بمديرية المحاسبة العامة ليقوم بالمهام التي يتم تكليفه بها». وفي الثاني، قرر «إلغاء تكليف السيد مصباح بو عرم بموجب المذكرة رقم 267/ص1 تاريخ 1/02/2016 كرئيس دائرة المراقبة الضريبية والاستردادات في مديرية الضريبة على القيمة المضافة»، و«إعادته الى مركز عمله الرئيسي كمراقب ضرائب رئيسي في مجموعة درس في دائرة التدقيق الميداني». وكلّف خليل «السيد سعيد قليلات مراقب ضرائب رئيسي ملحق بدائرة الرواتب والأجور» بالحلول مكان بو عرم. علماً أن قرارات مماثلة كانت تمرّ بتيار المستقبل في السابق ليؤخذ بملاحظاته. وأكدت مصادر في فريق 8 آذار أن ما سبق «ليس الا بداية الردّ على سلوك تيار المستقبل، إذ ان نقل موظفَين لا يوازي بطبيعة الحال القرارات التي اتخذها المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، خلافاً لرغبة حركة امل وحزب الله. لذلك من المتوقّع أن يتخذ خليل إجراءات إضافية، للرّد على قرار عثمان ورئيس فرع المعلومات خالد حمود بتعيين الرائد ربيع فقيه رئيساً لفرع الامن العسكري في «المعلومات» والعقيد علي سكيني قائدا لمنطقة الشمال في وحدة الدرك الإقليمي، من دون العودة الى حركة أمل». وأكدت المصادر في هذا السياق أن مشكلة الحركة «ليست مع الضابطَين المعيّنَين، ولكن مع الآلية التي تم اعتمادها». فكما يتم الأخذ برأي تيار المستقبل بشأن تعيينات قادة المناطق، وكما لا يتجاوز أحد النائب وليد جنبلاط عند تعيين شاغلي المراكز التي باتت مخصصة للضباط الدروز، يفترض أن يكون الامر مماثلا عند تعيين الضباط الشيعة وتحديدا قائد منطقة الشمال. كذلك لا يمكن حركة امل إلا أن تضع «هذا التجاوز في إطار انتخابي يهدف الى سيطرة المستقبل على قيادة الدرك في كل المناطق».